ها هي سنة 2023 تخطو أولى خطواتها على وجودنا، على أجسادنا وأرواحنا، وبعدْ وعدها الأكبر لا يلوح في الأفق. تعجبني فكرة أننا مستقرون والسنوات هي المتحركة، أننا ثابتون والزمن هو المتغير، لو كان ذلك واقعنا في هذا الكون الغريب الذي لا زمن فيه أصلاً، لكانت لدينا فرص لا محدودة لإصلاح خراباتنا اللامحدودة كذلك. لكننا محدودين، مربوطين بتاريخ انتهاء صلاحية، وما بين بدايته ونهايته، ضئيلة هي الفرص، وقصير وآخذ في الإنكماش هو الزمن. فكيف يمكن أن نصل لهدف ضخم في الأربعة وعشرين شهراً الموعودين لإنهاء حالة انعدام الجنسية في السنة 2024 كما اقترحتها مفوضية اللاجئين؟
لا تبدو بوادر الأمل واضحة في الكويت ومنطقة الخليج والمنطقة الشرق أوسطية بمجملها، ذلك أنه ما بين عناد ومكابرة وتعتيم حول الموضوع بمجمله، وما بين تعامل عنيف، نفسي ومادي، مع من يعمل فيه أو يعلي صوته بقضاياه، يبدو أن هذه الكارثة الإنسانية تغوص أعمق في مستنقع التراب المتحرك الذي رماه العالم فيه تاركه لمصيره. لقد صنعت البشرية هذه الفجوة المظلمة في نظام تعريفها “بأعضائها” مع بداية العصر الحديث وتشكيل الدولة المدنية، لتدخل العنصريات والتطرفات والتصنيفات التي أحياناً أقل ما يقال عنها أنها غبية، مثل اللون والنقاء العرقي، ضمن المحددات الأساسية للانتماء للدولة المدنية التي هي العنصر الأساسي في تشكيل المجتمع الدولي الحديث.
من أغرب جوانب قضية انعدام الجنسية أن “ذنوبها” ليست شخصية كما هي عقوبتها التي هي شديدة الشخصية والفردية، بمعنى أن الحرمان من الجنسية يأتي لأسباب في الأعم الأشمل تكون خارجة عن إرادة أصحابها، دون ذنب منهم أو فعل لهم أوصلهم لهذا الحرمان، فهم محرومون من الهوية إما بسبب حروب هجَّرتهم مما أوقعهم بين الشقوق القانونية والحقوقية للدول الجديدة، أو بسبب هجرات فقر وعوز دفعت بهم إلى دول تأملوا من وجودهم فيها مصير أفضل رغم أن الوصول لها أحياناً يكون مفروشا بالموت، أو بسبب عنصريات وتمييزات فاعلة إبان تشكيل دولهم جعلتهم مهمشين معزولين رغم أنهم وأجدادهم مكون أساسي في هذه الدول الناشئة الجديدة في زمنها، إلى غيرها من الأسباب المتعددة الكثيرة الغريبة أحياناً. معظم حالات انعدام الجنسية في الخليج تعود للسبب الأخير المذكور هنا، ذلك أن التمييزات العرقية ومفاهيم الأصالة القديمة البائدة لازالت تحكم الانتماء المدني كما تحكم غيره من معطيات الحياة، فحتى الانتماء الاجتماعي، التناسب بالزواج، التدرج الوظيفي، الوصول النيابي أو الحكومي، بل وحتى التحصيل المعاملاتي اليومي البسيط كلها تعتمد، وإلى حد كبير في منطقة الخليج، على هذه التصنيفات العشائرية القديمة البائدة والتي وإن كان بقية العالم لا يخلو منها تماماً إلا أنه يحاول مقاومتها ونفضها عنه بقوة حالياً.
انعدام الجنسية كارثة إنسانية بكل المقاييس، مع انعدام الجنسية تنعدم كذلك فرص العيش الكريم والحقوق الإنسانية الأساسية. ففي الدول المدنية الحديثة، تنكمش تماماً فرص العمل، إمكانية التنقل، الحقوق الرئيسية كالطبابة والتعليم دون وجود هوية تيسر هذه الأمور وتثبِّت الإنسان وتوثقه كعضو فاعل وموجود في المجتمع الإنساني. لطالما كان توثيق الانتماء من أهم التقاليد الإنسانية المجتمعية، ففي السابق كان الشكل والنطق موثقين للانتماء، فإذا لم يتوافرا، كان خوض الحروب والخضوع الكامل لنظام الحكم موثقات أخرى، بل إن البشرية كان تضع توثيقاتها على أجسادها، فكان البشر يَشِمون جلودهم انتماءا لقبيلة أو مجتمع أو بقعة ما، ذلك أنه، كما علمت البشرية منذ فجر ظهورها على سطح الأض منذ مئتي ألف سنة مضت وتزيد، أن لا يوجد فعل بشري أهم من الانتماء لجماعة، وأن لا حامي للحقوق ومُحافظ على استمرار النوع أقوى من الوجود في محيط وحماية هذه الجماعة. واليوم، وصولا إلى القرن الواحد والعشرين وابتعادا أربعة وعشرين شهرا عن التاريخ المنشود، لا نزال نخطو ببطئ وعلى استحياء، وأحياناً نقف مشلولين تماماً، تجاه حل هذه الأزمة الكارثية التي صنعناها بإرادتنا ونحن نشكل مجتمعات حديثة يفترض فيها العدالة والإنسانية والترفع عن التصنيفات القديمة العشائرية البائدة.
ليت شعار حملة منظمة اللاجئين يحمل صورة توضيحية تهبط بالبشرية إلى حقيقتها المتواضعة وتضعها في مكانها الصحيح، ليت الحملة تبقى تذكر جنسنا بتاريخيه الحقيقي والذي تطور من بدايات أكثر تواضعاً لكائنات ثدية ما أنقذها سوى طفرة ما في مخوخها هبطت بها من الأشجار لتمشي على الأرض فتعمرها وتستغلها في ذات الوقت، لتتقدم بها هذه الطفرة إلى مرحلة أنستها البدايات المتواضعة، أنستها وحشيتها وبدائيتها، وضببت لها الحقيقة العلمية الواضحة لكذبة نقاء الدم وأصالة الانتماء ورِفعة العرق. يا حبذا لو ذكرتنا حملة منظمة اللاجئين ببداياتنا البيولوجية البسيطة، وأننا جميعأً، بلا استثناء، نتاج هذه البدايات، وأن فكرة نقاء الدم هي أكبر كذبة كذبها الإنسان على نفسه وصدقها، وأن حتى أكثر مجموعة بشرية انعزالا لا يمكن أن تكون نقية الدم بنسبة كاملة، وأن نقاء الدم هو غير مهم أصلا ولو تحقق، فلا هو يكسب الإنسان أخلاقاً ولا هو يزوده بالشهامة والمروءة والإنسانية وبقية الصفات الأخلاقية الحديثة التي تجعله فاعلاً في الدنيا الحالية. رحم الله أجدادكم وأجدادنا، كلنا نأتي من “سمكة،” فلنتذكر ذلك ولنشكر الأقدار التي قدمت لنا هذه الطفرة ولنقطع الحق من أنفسنا ونعدل، فكما صعد جنسنا بطفرة، يمكنه أن يهبط بطفرة أخرى، وكل عام والجميع بخير.