خرج علينا قبل أيام نائب في البرلمان الكويتي محتجاً مهدداً على إثر نزول إعلان لدورة رقص شرقي في أحد الأندية الرياضية النسائية. مما لا شك فيه أن كلامه فعلياً لا يحمل أي قيمة اجتماعية حقيقية، ولا يشير إلى أي تهديد أخلاقي حقيقي خطر، ولا يستهدف أي محاولة إصلاحية واقعية. كلامه، في الواقع، لا يخرج عن حيز كلام المشايخ الدينيين أو السياسيين المحافظين الذين يرون في كل موقف مجتمعي صغير فرصة انتخابية دعائية «ببلاش» يذكرون من خلالها الناس بوجودهم ويحركون بدغدغة جوانبها مخاوف الناس ويعيدون تصفيفهم، بالقسر النفسي، في صفوف صراطهم الاجتماعي السياسي، إحكاماً لقبضتهم على أعناق الأفكار وتعتيماً للبصائر، حتى يبقى الجميع تحت السيطرة، وبالتالي مصدراً للاستفادة.
ولقد كان لمشايخ ومحافظين سابقاً من التصريحات ما لا يمكن، منطقياً وعقلياً، استيعابه، كمن صرح بحرمة قيادة المرأة بسبب أن كرسي القيادة يضغط على المبايض ويسبب العقم، ومن صرح بحرمة «الستلايت» والتصوير لما يعرضه الأول من فسوق، وما يعرضه الثاني من خلق حي (والذين ذاتهم اليوم يعشقون تصوير «السلفي» خصوصاً خلال زيارتهم للحرم في مكة) ومن صرح بحرمة تصفح المرأة للإنترنت، ومن صرح بنكاح الزوجة المتوفاة، ومن صرح بحرمة تناول المرأة مأكولات معينة لأسباب لا يمكن لأحد أن يفكر فيها سوى «ذكر» شرقي يدور ويلف عقله في حلبة الشهوة والجسد. وكما هو واضح، دوماً ما تدور التصريحات والتنديدات والفتاوى حول موضوع «رجال الدين» المفضل: الشهوة والجسد، الذي هو موضوع لربما له عمق نفسي وترسبات اجتماعية وأذرع أيديولوجية هي كلها ساهمت في تشكيله وتكراره على ألسنتهم بهذه الدرجة من العصاب السلوكي.
بالطبع، لم يتم إغلاق النادي الصحي ولا إلغاء دورة الرقص فيه، والتي هي دورات متعارف عليها في الأندية الصحية النسائية، كما وليس هناك أي تبعات حقيقية لهذا التصريح الذي يعلم الجميع أسباب صدوره، كما يعلم الجميع أسباب سكوت هذا النائب وغيره من «المتدينين السياسيين» عن حوادث خطرة أخرى متزامنة، مثل حادثة محاولة انتحار رجل عديم الجنسية في الكويت قبل تصريح نائبنا الفاضل بيوم واحد فقط، حيث لم يذكر النائب كلمة واحدة حول هذا الموضوع الشائك. كلنا نعرف الأسباب وأسباب الأسباب، ونقدر انتهاز النائب الفرصة لحملة دعائية مجانية. ما يهم وما يجب أن يكون موضوع الدراسة والبحث هو في الواقع سيكولوجية الشارع في التعامل مع مثل هذه التصريحات. فلولا جمهور الشارع المتجاوب، ما تجرأ النواب والساسة المحافظون على مثل هذا الطرح الخاوي السخيف.
يتلاعب السياسيون الدينيون على وترين رئيسيين: وتر الخوف العصابي العربي على المظهر الخارجي والسمعة، ووتر الخوف العصابي الديني من الوقوع في الخطأ ومعاناة عذاب أبدي رهيب. لربما معظم من سمع تصريح النائب، كما بقية التصريحات والفتاوى المطروحة على مدى دهور من الزمان، ما كانوا مقتنعين أو مصدقين، ولربما في دخيلة أنفسهم كانوا ساخرين مما يسمعون، إلا أن الاعتراض على هذا الخطاب قد يوقعهم ومظهرهم المتدين في مأزق.
وعليه، فهم يفضلون مسايرة اللامعقول الفكاهي على المواجهة بحوار عقلاني قد يستشعرون أنفسهم خلاله يقفون في صف مواجِه للتدين. وهكذا، نجد أن المستنكرين أو الرافضين أو حتى المستغربين من هذه التصريحات يسكتون في معظم الأحيان خوفاً على سمعتهم التدينية من أن يتم التشكيك فيها. إلا أن هناك جانباً عقائدياً قوياً، هو كذلك محفز للسكوت وأحياناً التجاوب مع مثل هذه التصريحات الغريبة. ماذا لو كان هناك نسبة صحة بسيطة في هذه الفتاوى والتصريحات اللامعقولة، أليس من الأسلم، احتياطاً، اتباعها منعاً للوقوع في خطأ قد يورد مهلكة أبدية؟ وهكذا، ما بين حماية للسمعة التدينية ورعباً من الخطيئة والعقاب الأبدي، يتجاوب الشارع العربي الإسلامي مع اللامعقول واللامنطقي والغرائبي والسخيف والتافه والعصابي، وغيرها من أنواع التصريحات والفتاوى التي بحد ذاتها تدل على مشكلة نفسية عميقة عند قائليها، مشكلة يسقطونها رويداً على المتلقين، لينتهي الشارع العربي الإسلامي كله في «التوايلايت زون».
بكل تأكيد، تحتاج مثل هذه التصريحات والفتاوى لأن تتوقف، ليس لأن لها تأثيراً مباشراً على القرارات السياسية وعلى مسار الحياة الاجتماعية، فمعظم الناس، ومعظم الحكومات والقوانين، لا يستطيعون -منطقياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو سياسياً- الالتزام بفحوى هذا اللامعقول. إنما بالدرجة الأولى، لا بد لهذا العصاب التصريحي لأن يتوقف؛ لما له من أثر نفسي تخريبي على الناس. سمحت مثل هذه التصريحات لما هو غير معقول وغير عقلاني وغير إنساني لأن يتداول ويأخذ قيمة بيننا، مفسحة الطريق لمزيد من اللامنطقي، الخرافي، والسطحي من الأفكار لأن تأخذ زمام أمورنا بيد منطقها الخاوي. كذلك، أسست هذه التصريحات لحالة من النفاق الكوميدي في مجتمعاتنا، مرسخة فكرة «الوجهين»: وجه تظهر به أمام الناس، ووجه تعيش به مع نفسك لتمارس حياتك كما تريدها وتراها معقولة. هذا الوجه الثاني كثيراً ما نراه يظهر حين يسافر شارعنا التقيّ إلى بلاد الغرب «الكافر» ليعيش الناس حيواتهم الحقيقية، بعيداً عن جنون التصريحات ولامعقولية الفتاوى، حيث السمعة يحميها مبدأ الحرية، وحيث الخوف تخففه مشاعر حب الحياة والاستمتاع البريء بها. نحن مساكين، نحن الضحية، والجلادون نحن.
* إشارة إلى «أنا الضحية والجلاد أنا» كتاب مهم لجوزيف سعادة.