فيما يتم إعلان سقوط ما يدعى بـ «دولة الخلافة الإسلامية» (داعش) في الموصل ولربما خروجها الكامل من العراق، حدثتني هذه الشابة عن مخاوفها المتأججة، عن والدها الذي لا تود هي أن تؤذيه ولكنها غير قادرة على تخطي تأييده لـ «داعش» وحديثه المستتر بين جدران بيته حول صحة، ولربما بسالة، ما يقومون به. طمأنتها أن ضرراً ما لن يصيب والدها بسبب ما يفكر به، ولم أخبرها أن الضرر قد وقع مقدماً ومنذ سنوات طويلة حين إقتنع هو شاباً يافعاً بفكرة الحق الأوحد، وهدأت من نفسها بأن والدها ليس وحيداً ولا فريداً في تأييده لهذه المنظمة المروعة، ولم أخبرها أن الخطر كل الخطر هو في الأعداد الكبيرة الخفية المؤيدة لـ «داعش» من حيث سعيها لتحقيق الحلم الإسلامي الأخير، كما يعتقدونه، بسيادة هذا الدين على الأرض عن طريق «دولة الخلافة» التي ستمتد سيطرتها على كل البشر وتنتهي بوجودها الحياة وتقوم باستتبابها القيامة الأخيرة.
ولطالما حيرتني هذه الفكرة، سعي حثيث لهدف «سام» أخير تباد له الأرواح وتراق خلاله الدماء وتقتل على طريقه الأطفال، ثم ما أن يتحقق هذا الهدف وتقوم دولة الدين الأوحد الموعودة، حتى ينتهي العالم وتقوم القيامة، فما الحكمة ها هنا، ولأي غرض كل هذا الهوان والعذاب وإراقة الدماء إذا كان كل شيء سينتهي لحظة الانتصار أو بعدها بقليل؟ قصة غريبة هي قصة البشر، والأغرب منها هي وحدة رؤيتهم، تطابق آمالهم وتطلعاتهم حتى في عنفها، فلا نجد قراءة دينية تخلو، تقريباً، من حلم سيادة دينها على الأرض في النهاية، مُبَرِرة كل ثمن يدفع وكل جريمة ترتكب بنبل هذا الهدف. مخلوقات غريبة نحن، صنعنا لأنفسنا هدفاً سيادياً على الأرض سيتحقق متبوعاً مباشرة بنهاية هذه الأرض وقيام الساعة، فأي شبكة أسلاك كهربائية تتحكم في عقولنا؟
وددت أن أطمئن الصغيرة، ولكنها ربما سمعت كذبي في رنة صوتي، لربما شعرت بتردد كلماتي، سمعت لسان ضميري يقول نحن لسنا فقط في وسط الخطر بل نحن صانعيه، مهما حاولنا تبرير المنظومات الإرهابية بالتدخلات الخارجية والسياسيات العظمى، إنهم في النهاية نحن، نحن من خصب التربة وحفر الحفرة وبذر البذرة. أما أن تأتي دولة خارجية لتستفيد من الثمار، فهذا هو عين عقل السياسة كما نعرفها نحن البشر، والتي تعتمد على الاستغلال القذر للبذرة الفاسدة، فلا نلومن اليوم الحاصد، إنما اللوم، كل اللوم، على الزارع، هذا الذي أصر على بذر بذرة قديمة، انتهت صلاحيتها، حصدها هو موت وحصدها أعداؤه فراولة مغموسة بدمائه.
خرجت «داعش» من الموصل ولكن هل خرجت من العقول والضمائر؟ هل انتهى الحلم الشرير بسيادة العالم؟ هل استبدلت فكرة الدين الأوحد المسيطر بفكرة التعايش والرحمة وقبول الاختلاف؟ هل سيضع قياصرة الدين صولجانتهم أرضاً حقناً للدماء؟ هل سيتوقفون عن تهديد الناس في حيواتهم الدنيوية والأخروية تعزيزاً لقواهم وتحقيقاً لمصالحهم؟ هل سيتوقف الخوف عن الدق في قلوبنا، الخوف من الدنيا، الخوف من الآخرة، الخوف من القبر وعذابه، الخوف من النار، الخوف من العذاب الأبدي، الخوف من رجالات الدين، الخوف من حكم الآخرين علينا، الخوف من الحرية والتفكير المنطقي من قيادتنا إلى خارج الصف، الخوف من كل ما يمكن أن يحيد بنا عن طريق الجنة التي ستتحقق فيها كل الشهوات الجسدية المتواضعة، هذا الخوف الذي يغلف كل شيء حتى حجب عنا ضياء العقل وهواء المنطق؟ لربما نحن غير قادرين على الحياة بلا خوف، لربما نحن نستشعر الحياة فقط من خلال هذا الخوف، نتلمس طريقنا من خلال التهديد والوعيد، نقرر قراراتنا من خلال مؤشر العذاب، هذا العذاب الموعود في الدنيا والآخرة والذي وصل حد فزعنا منه أننا مَنطَقَنا «داعش» وتفهمنا غايتهم التي تبرر وسائلهم.
ليست المصيبة في وجود «داعش» على الأرض، فعلى مر التاريخ الإنساني كان لكل مجتمع دواعشه ولكل حضارة متطرفوها ومخربوها، المصيبة الحقيقية هي في وجود «داعش» المواصل إلى الألفية الثالثة في أعماق نفوسنا، وجود أسس له خوف عميق وألم سحيق وحرمان مرير، وجود زرعت بذرته ونما عوده وضربت جذوره عميقاً في تربة النفس حتى أصبح جزء منها. الخلاص لن يكون سوى باقتلاع هذه النبتة السامة، وسيكون ذلك اقتلاع مؤلم حارق لا يجد معه مخدرا أو مهدئا، اقتلاع سيحتاج لفترة طويلة من النقاهة وإعادة تأهيل للتربة المسممة.
الطريق طويل ومؤلم ولكنه ممكن، يبدأ بإعادة قراءة النصوص، وبتكييفها التاريخي وبالرفض التام لكل تفسير عنيف أو سلطوي، وبالاعتراف الأخير بأنه لن يكون هناك مخلص أوحد أو مسيطر أوحد أو حق أوحد، فعالمنا عالم التنوع، بهذا التنوع نستمر ودونه نقضي بأمراض «التشابه» الوراثية. ستنتهي «داعش» يوم تنتهي فكرة الحقيقة المطلقة، فلينظر كل منا الى داخل نفسه، وليواجهها، هل فيها شوق لحقيقة مطلقة؟ هل فيها شيء من «داعش»؟