صوفي

يقول جبران خليل جبران:

“أولادكم ليسوا لكم

أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها، بكم يأتون إلى العالم، ولكن ليس منكم.

ومع أنهم يعيشون معكم، فهم ليسوا ملكاً لكم”.

هي ليست ملكي، أخبر بهذا قلبي يا جبران، أخبره أن صفاء الصغيرة، المنشغلة اليوم بأوراقها وحياتها الجامعية المقبلة وسفرها الدراسي لم تعد ملكي، أخبره أن الفراق قد حان، وأن المطلوب اليوم هو… أن أفلت يدي.

أجلستها في حضني، فتاة فارعة الطول مكتملة نصاب الشباب، لكنني أجلستها في حضني، فقد تكون تلك آخر فرصي، أسررتها، كما تفعل كل الأمهات الشرقيات، على أن أفلتها بعد حين، ولا أريد، ولابد أن أفلتها، ولا أريد، وها هي تنهض من حضني، يلوح لي سواد شعرها وداعاً لن تعود بعده إلي طفولتها، فأبتسم وأدعو وأغمض عينيّ على رائحتها وسواد شعرها.

أعلم أنك تقرئين مقالي يا ابنتي، فإليك مرة أخرى ما أسررتك به، علّ بعضه يرسخ في الوجدان ويظهر لك من باطن وعيك وقت الشدة أو الحزن أو الضيق، فاعلمي أنني ووالدك اخترنا لك طريقاً وعراً منذ البداية. كنت دوماً مشروعي الأعظم، من خلالك أريد أن أثبت مبادئي وإيمانياتي، فحمّلتك أكثر مما تحتمل سنواتك وخاطبتك بما يفوق طفولة عقلك، فإن ملكت فاغفري لي، واعلمي أننا كنا نعرف ما سنعانيه في الطريق الوعر الذي اخترناه، طريق الحرية والمساواة الذي لا يجعل من أنوثتك حملاً على عاتقك، وكم عانينا قلقاً عليك ومناكفة معك، لكننا كنا نؤمن أن نهاية الطريق نور ساطع، ستبرقين أسفله حلماً رائقاً ومشروعاً خلاباً.

اسمعي يا صغيرتي علّّ ما أقول يسطع في ذهنك يوم تشتد الدنيا، واعلمي أنها ستفعل، ففي الدنيا مسارات كثيرة، ستتوهين بينها إن لم تكن لديك خارطة واضحة المعالم، فضعي خطوطها من أخلاقك ومبادئك التي نشأت عليها، ستخطئين، حتماً ستفعلين، ولكن الخلق والمبدأ سينقذانك، وسيخرجانك من الخطأ منتصرة، أكثر نقاء وصلاحاً، واعلمي يا صغيرتي أن في الدنيا شراً كثيراً، ولكن خيرها أكثر، فلا تؤمني في يوم بتفوق شرها على خيرها، ولا تقدمي سوء النية، فخير لك أن تحبطي مرة بعد مرة عن أن تتكومي على نفسك وتغلقي قلبك بسوء توقعاتك كل مرة، تذكري يا حبيبتي من أنت، افتخري بشرقيتك واستعرضي عاداتك وتقاليدك، فتلك لن تزيدك سوى كبر في عيون الناس، تحدي الموروث البائد بأخلاق تسمو فوقه ولا تخجلي من التصريح بوجوده، فلكل مجتمع تاريخه الذي يتعلم منه.

أصغي إلي يا ابنتي، أحمِّلك ووالدك سمعة بنيناها في سنوات طوال، بيضاء ناصعة لم تشبها في يوم شائبة، وأنا أعلم حبك للون الأبيض فاحرصي على بقائه يلون أيام حياتك، وضعي اسم عائلتك في عنقك، ليس حملاً ولكن تميمة تحفظك وتربطك بأرضك وتاريخك، إن شئت أن تخلعيه فافعلي، ولكن اعلمي أن “من فات قديمه تاه” وأن من لا ماضي له، فلا مستقبل مثمر ينتظره.

أنصفتك الدنيا يا صغيرتي، أنصفتك كثيراً، فتذكري أنها على قدر ما رحمتك قست على غيرك، فلا تكوني والدنيا على الآخرين، واستمعي لقلبك قدر استماعك لعقلك، فإذا ما توازيا، فرجحي العقل فهو أقل تكلُّفاً وأكثر واقعية، بادري لمساعدة غيرك ورجحي المساعدة على متعتك وإن استطعت حتى على مصلحتك، ففي النهاية، ستعود عليك المساعدة بخير نفسي وحياتي وفير، تمتعي بوقتك واصرفي جزءاً وافراً منه في التنزه والترفيه عن القلب، احضري الحفلات الموسيقية والعروض المسرحية، تلك ستُبقي وجدانك حياً وضميرك واعياً وأخلاقك متجددة النضارة، تذكري يا صغيرتي أنه على قدر إيمانك بطموحك ستحققين النتائج، واعلمي ألا حدَّ للطموح ولا مراقب على الحلم، فاطمحي واحلمي، وكلما دفعت بحلمك إلى عوالم الصعاب المستحيلة، كانت الرحلة أجمل بل فرص الوصول أكبر، فتحدي حتى نفسك، وكابري حتى مع حلمك، ولا ترضي بحدّ ولا تزيغنك صعوبة ولا تغرّنك راحة، واجعلي كل حلم منفذاً لآخر، فمن يعيش بلا حلم فهو في الواقع… لا يعيش.

يا فتاتي، كل عنادك الذي استخدمته ضدنا، كل ثوراتك على القوانين، كل تحديك للأوامر، اليوم أتى دورها فوظفيها لمصلحتك وبما يتواءم وأخلاقياتك ويدفع بحلمك، واعلمي أنني أريد لك النجاح ولكن ليس على حساب الرضا الداخلي، وأنني أريد لك الثراء ولكن ليس على حساب الخواء النفسي، وأنني أريد لك السعادة لكن ليس على حساب أي تعاسة تصيب الآخرين، فوازني الأمور وحكّمي المبادئ واستحضري المثل، وأبقي وجه والدك أمام عينيك، واسمي جديك نصب ضميرك، ومحبة جدتيك في ثنايا قلبك، واذكريني، يا قطعة من قلبي، أمَنتك ما علمتك، أمَنتك مشروعي الأكبر وحلمي الأعظم، فانطلقي وعيشي واسعدي، ولا تلتفتي للخلف أبداً، حياتك أمامك، فامضي إليها واسعدي، بحق حبي وألم فراقك… اسعدي.