يعود للسطح هذه الأيام “الإقرار والتعهد” الذي فرضه منذ فترة الجهاز المركزي على البدون الكويتيين، والذي يقسر المتعهد على الإقرار بأن “الجهاز المركزي للمقيمين بصورة غير قانونية وكافة العاملين به، لم يدخروا جهداً في تقديم كافة المساعدات الممكنة لي، في ضوء الأحكام القانونية المقررة”. والتعهد يكون على التالي: “عدم استخدام أي من الوسائل في سب أو قذف رموز الدولة أو القائمين على تنفيذ سياستها المرسومة من الحكومة أو الأجهزة التي تعالج ملف المقيمين بصورة غير قانونية… عدم المشاركة في أي أفعال أو تظاهرات قد تخل بالنظام العام أو الأمن… أو إعطاء أية معلومات مغلوطة… ألا أرتكب أي فعل قد يكون من شأنه التأثير على سمعة دولة الكويت ومؤسساتها الرسمية محلياً أو إقليمياً أو دولياً وذلك بأي طريقة كانت”.
كلنا نعرف أن كل حكومات الدنيا تلعب سياسة، والسياسة أبعد ما تكون عن المبادئ والمثل الإنسانية، نعلم أن الحكومات تحسبها بحجم المصلحة، وأنها تتواطأ ضد الضعيف، وبفسادها، وكل الحكومات تحتوي نسبة فساد، تزيد من ضعفه وتعظم من أساه، كل هذا نعرفه ونعيه، ولكن ما لا أستطيع شخصياً استيعابه إلى اليوم هو الطريقة المكشوفة والصريحة التي تلعب بها حكومتنا هذا الدور الكئيب. كل البدون على أرض الكويت مجبرون على توقيع هذا التعهد، ومن يرفض منهم تسحب أوراقه الرسمية ويستدعى أهله وتسحب أوراقهم كذلك، والتي هي، ويا لسخرية القدر، ليست رسمية تماماً. هذا التعهد يقسر الموقع على الإقرار بأن الجهاز قدم كل المساعدات الممكنة حتى لو أن الجهاز، ومن خلال سنواته الخمس الماضية، لم يحرك ساكناً ولم يسكن متحركاً. هذا التعهد يجبر الموقع على إغلاق فمه تماماً، فالسب والقذف المقصودان هنا يدخل في حيزهما أي نقد للجهاز المبارك، وفي أي وسيلة إعلامية كانت. هذا التعهد يمنع الموقّع المشاركة في أي اعتصام، في أي تحرك يعبر فيه عن وجعه، يمنعه الحديث عن قضيته تماماً لأن كل حديث حولها هو “معلومات مغلوطة”، وهذه شهدتها أنا بأم عيني وأذني: المعلومة في وجهي ويكذبونها، الحدث أمامي ويقولون عنه خلافه. هذا التعهد يحظر على الموقّع حتى الشكوى الإقليمية أو العالمية وبأي طريقة كانت، حتى عن طريق القنوات الرسمية الإنسانية العالمية.
ماذا بقي للفرد البدون؟ يوقع التعهد ويجلس في بيته الصفيح، يتعلم أولاده سنة، وسنة يبقون في البيت، حسب رياح الجهاز و”مود” أصحابه، يعمل سنة ويبقى سنة في البيت، حسب رحمة أهل البر والتقوى، يتطبب سنة وسنة يبلع مرضه، حسب مزاج كتبة المستوصف. ما هذه الجرأة أيتها الحكومة حتى تصدري تعهداً مثل هذا، بهذه المواد المائعة، وهذا القهر الواضح، وهذا القمع الظاهر والمبطن في كل كلمة من كلماته، ثم تتوعدي بسحب أوراق وتجميد حياة كل من يرفض توقيعه؟ ما هذا “التهور” أيتها الحكومة، حتى لا أقول كلمة أقسى، حتى يخرج لواؤك فيتوعد جزءاً من ناسك بالبيع إلى جزر القمر، هكذا بوضوح وصراحة، دون أدنى دبلوماسية أو مداراة؟ ما هذا التسلط أيتها الحكومة حتى ما عدت تأبهين بأطفال لا يتعلمون، ورجال لا يجدون اللقمة، ونساء لا يجدن الطبابة، وشباب تذهب أعمارهم هدراً وصغار يحترقون تحت سقوف الحرمان في دولة المركز الإنساني والوفرة المالية والافتتاح المليوني لاستاد رياضي لم “تحضر” رياضته بعد؟
في حوار شخصي لي مع أحد كبار المسؤولين في الجهاز سألته حين اشتد نشاطهم وارتفع حماسهم بشأن التصنيف الملون للبدون: ماذا ستفعلون حين تنتهي مدة البطاقة الحمراء للبدون، وعمرها سنة، وهي البطاقة التي توحي بوجود قيد أمني وباستحالة تجنيس صاحبها، وذلك دون أن أتطرق أصلاً لنقطة كيف ستصدرون مثل تلك البطاقة، ومن هذا العاقل الذي سيأتي ليستلمها منكم؟ أجابني السيد محاوري: هذا ليس شأننا، نحن نصدر البطاقة، بعد انتهائها، الموضوع ليس عندنا.
الموضوع ليس عندهم، وليس عند هذا الوزير، وليس عند ذاك الغفير، ولا أحد يعرف أين الموضوع وعند من. في السابق شجعت الحكومة البدون على استصدار الجوازات المزورة، وها هي هذه الجوازات اليوم تضاعف المشكلة وتعمق من أسى حامليها، هي التي كانت في يوم أحد الحلول الحكومية والتي كانت مكاتب بيعها تعلّق إعلاناتها في المقر الرسمي للجنة المركزية السابقة للجهاز، اليوم الجهاز يريد استصدار بطاقات ملونة، ويريد توقيع تعهد، الجهاز يريد، ومازن الجراح يريد، والله يفعل ما يريد.