لا يمكن أن يكون هناك مشهد أكثر وجعاً من مشهد أم تزغرد خلف نعش ضناها، من مشهد ثكلى تودِّع وتودع صغيرها للفردوس الأعلى عصفوراً من عصافير الجنة كما قالت أم أيوب، هذه الغزاوية الشجاعة التي أكدت أنها أسمت إبنها أيوباً لتستحث من إسمه الصبر، وها هي صابرة، كما تؤكد، ومحتسبة عند الله كل آلامها وانفطار قلبها.
لا يمكن أن يكون هناك مشهد أكثر تعلقاً في الذاكرة من مشهد ذلك الجد الذي في وداع “روح روحه” أخذ يتحسس عينيها محاولاً فتحهما، جَدَّ يمسد جبينها بلحيته علها تصحو مطلقة ضحكاتها الرقيقة التي اعتادها.
لا يمكن أن يكون هناك مشهد أكثر إشعالاً للأوراق التي يُطبع عليها صوراً، للمواقع التي يُنشر عليها تسجيلاً، وللذاكرة التي يُختزن فيها ذكرى من ذاك الذي هو لأجساد لا حصر لها ملفوفة بأمتار لا عد لها من القماش الأبيض الملطخ بالأحمر، بعضها لفافات كبيرة، أكثرها لفافات صغيرة، كلها متراصة جنب بعضها البعض متأهبة لحظة عروجها للسماء، هناك حيث الراحة والهدوء، حيث الشبع والارتواء، حيث العدل والرحمة، وحيث الأمن والأمان.
لا يمكن لنا أن نعود مثلما كنا قبل السابع من أكتوبر، حتى النسيان الذي يعتمده الإنسان للتغلب على الوجع وللاستمرار في الحياة لن يستطيع أن يتغلب على كل هذا الصرير الحاد في الآذان، على هذه العصرات الحادة للقلوب، على هذا الشعور الحارق بالعجز وقلة الحيلة والذي سيبقيان متلازمة لنا تحديداً كشعوب عربية على مدى أجيال قادمة، متلازمة تصبحنا وتمسينا بذكرى دفن آلاف الأطفال تحت أنقاض تفجيرات القنابل دون أن نقدم نحن الجيران الأقرب شيئ يذكر. لن يستطيع النسيان أن يأخذ في طياته الصور والفيديوهات وعناوين الصحف ولقطات وسائل التواصل، نحن جيل انطبع بالألم وانوصم بقصر ذات اليد وانصاب بأزمة أخلاقية وجودية ستبقى تخلخله وكل ما اعتقده وآمن به إلى نهاية حياة آخر فرد فيه.
ولأننا مرضى إلى هذا الحد، سنأخذ كل شيئ بشكل شخصي، وسنقرأ كل كلمة بحدة، وسنناظر كل صورة بسوء نية، وسنكره متجر زارا إلى آخر الدهر على دعايته التي أقل ما يقال عنها أنها عديمة الشعور والحصافة إن لم تكن مقصودة منتواه، وسنقاطعه إلى أن يتحول تحولاً جذرياً إلى أحد أهم الروافد الاقتصادية للمقاومة الفلسطينية.
لقد حولتنا حقارة الحكومات العالمية إلى أشخاص غاضبين، سيئي النية، مبالغين في ردود الأفعال، ومصرين على كل ذلك، وهل يمكن أن يوصف أي رد فعل تجاه سبعة آلاف طفل مقتول وأكثر منهم مدفونين تحت الأنقاض بالمبالغة؟ لا أعلم حقيقة إن كان متجر زارا بهذا الغباء لأن يصنع دعاية إعلانية تصور عارضات أزياء يحملن ما تبدو أنها جثثاً أو تماثيل ملفوفة بقماش كالكفن على خلفية من قطع خشب تبدو كأنها الخارطة الفلسطينية، أو هو بهذه الحقارة لأن يروج إعلامياً على حساب مذبحة إبادية، إلا أن ما أعلمه يقيناً هو أن على كل مؤسسة اقتصادية واجتماعية وسياسية ودينية في العالم اليوم أن تبدي حساسية شديدة وحصافة عظيمة تجاه المجزرة المتوحشة التي هم صامتين بمعظمهم عن قيامها واستمرارها، على الأقل بتجنب نكئ الجراح وبالابتعاد عن أي ما يمكن أن يستثير ذاكرتنا، التي تقطر دماء حالياً، بلقطة أو صورة أو لون أو كلمة تزيد الوجع وجعاً وترش الملح على الجراح من قريب أو بعيد.
لا مجال الآن لادعاء الخطأ وعدم الانتباه. إن أقدمت الشركات على “أخطاء” مثل هذه بتقصد فتلك مصيبة، وإن لم تتقصدها فالمصيبة أعظم، ذلك أن عدم التقصد هذا دلالة انعدام إحساس وخواء تام لهذه المؤسسات الامبراطورية من القدرة على التواصل العاطفي الإنساني مع الأوجاع الضارية وعلى تقديم رد فعل محترم تجاه الموجوعين وفاعل تجاه المجرمين، خصوصاً عندما تكون تلك الأوجاع بحجم وجع غزة الحالي.
أكتب مقالي هذا يوم الاثنين الموافق 11 ديسمبر والمعلن يوم مقاطعة عالمي لكافة صور التداولات المالية في رسالة نأمل منها أن تلفت انتباه حكومات العالم المتواطئة. وعلينا بعدها أن نكمل المسير، علينا أن نحول المقاطعة إلى استغناء تام، ونحرِّم على أنفسنا، نحن الجيل الشاهد على هذه المجزرة، كل تعامل مشبوه بالرضى الصهيوني أو ملطخ بدماء شهداء غزة الأطهار، إلى آخر يوم في حيواتنا. هذا أقل “ثمن” يمكن أن ندفعه، تلك أصغر “عقوبة” قد نستحقها، هذا لو كان الموقف المبدئي بالتخلي عن رفاهيات تافهة غير ضرورية “ثمن” أو “عقوبة”، إنه أضعف الإيمان.