تدور هذه الأيام رسائل تنافسية حول أهمية أهل العلم في مقابل أهمية أهل الدين، أقصد هنا أهمية العلماء في مقابل أهمية المشايخ، وما إذا كانت هذه التجربة الوجودية التي نمر بها مع فيروس كورونا يمكنها أن تحسم هذه القضية.
إلا أن هذا الجدل البيزنطي النوع، واقعياً، لن يصل إلى نهاية، فلن يستطيع مشايخ الدين استشفاف العلوم من الكتب الدينية في يوم، ولن يتمكنوا من تطوير البشرية من خلال «البحث العلمي الديني»، كما ولن يتمكن العلم في يوم من الإجابة عن أسئلة البشرية كافة، التي كثير منها لربما لا إجابة قاطعة له، ما يستدعي وجود العقائد الدينية التي تقدم رؤية حول مصير ما بعد الموت، كما وتقدم محاولات إجابة عن الأسئلة الوجودية التي واقعياً لا إجابة علمية قاطعة لها.
ربما ليس من العدل إقامة هذه المقارنة، فمع انتشار فيروس كورونا، قطعاً سيكون الأطباء هم الأكثر أهمية في هذه المرحلة، إلا أن هذا ليس بدليل على انعدام أهمية مشايخ الدين؛ فهؤلاء، فضلاً عن كونهم يقدمون رؤية حياتية لما بعد الموت تسكن النفوس وتوعز بالطمأنينة، وفضلاً عن أنهم يرسمون طريقاً دنيوياً يوصل إلى آخرة إثابية ممتعة، هم كذلك قادرون على تحريك الشعوب بمجملها وقسرهم على اتخاذ مسار ما. على سبيل المثال، تعاني معظم الدول من عدم قدرتها على احتواء الناس إقناعاً بالبقاء في البيوت وبحجر أنفسهم منزلياً، وحتى في أفضل الدول تطوراً وحضارية، فإن الطبيعة الإنسانية الاجتماعية تغلب على الأفراد الذين هم مستعدون للمغامرة بحيواتهم من أجل فسحة يرون فيها آخرين ويجتمعون بهم. لكن، لو أن بابا الفاتيكان مثلاً، أو مشايخ الأزهر أو الحوزات الدينية، يحرّمون الخروج من المنازل لربما سيكون التجاوب أكبر بكثير.
في الكويت، لم يتوقف الناس عن الذهاب إلى المساجد إلا عندما ظهرت فتاوى بخصوص ذلك، وعندما بدأ الأذان يصدح بجملة «صلوا في منازلكم» في نهايته.. جملة لم أتخيل سماعها في يوم، جملة توحي بنهاية العالم.
تتجه الأنظار اليوم نحو العلماء والأطباء، فهم حقيقة القادرون على إنقاذ البشرية، إلا أن إيصال المعلومة وإقناع الناس بها وتهدئة نفوسهم وإلزامهم بالتعليمات والحد من التهور وتقييد نسب الجرائم والسرقات، كلها لربما سيتم استتبابها بشكل أقوى لو تدخل مشايخ الدين وفعلوا أصواتهم مساندة للعلم والعلماء. هنا يمكن لهذا السلاح الديني أن يكون ذا حدين، فمن جهة هو يطمئن الناس ويبث الهدوء في قلوبهم ويدفعهم للالتزام بالأوامر والتعليمات ويقسرهم على الطاعة الجمعية بفاعلية لا تقربها أي أداة أخرى، هل نجد أفضل من كلمة رجل دين لتحرك مليون إنسان جميعاً لتنفيذ أمر ما؟ إلا أنه من جهة أخرى، يمكن للطمأنة الزائدة عن الحد، ولتأكيد فكرة أن كل شيء في يد الله، و«خليها على الله» وأن المقدر مكتوب ولا طائل من مصارعته.. يمكن لهذه الفكرة أن تعطي شعوراً بالطمأنينة يجعل الناس أقل حرصاً وأكثر أريحية في التعامل مع محيطهم، ما سيتسبب في تعميق المشكلة. الرسالة الدينية يجب أن تكون واضحة ومباشرة ومنطقية المنطلقات حتى تؤدي دورها الفعال.
هنا سنبخس حق المنطق وسنستهين بالسيكولوجية البشرية إذا لم نعط للمشايخ الدينيين أهميتهم في هذه المرحلة. البشر مشكلون جينياً ليحتاجوا الإيمان، ليتوقوا إلى عبادة قوة عليا تحميهم وتخطط مصائرهم، ليتيقنوا من أن هناك هدفاً للحياة ومعنى لآلامها وأحزانها، وإلا ستصبح الحياة داكنة جداً وقاتلة لكل غاية أو هدف يعطيان لحياتنا على الأرض أي معنى. يحتاج الناس الآن إلى الإيمان بأن للحياة هدفاً، ولما بعدها وجوداً، يحتاجون إلى الإيمان بجنسهم البشري الذي يستحق الحماية والاستمرار، يحتاجون إلى الاعتقاد التام بمسؤوليتهم تجاه جنسهم وأنهم سيحاسبون إذا ما تهاونوا في حمايته. دون هذا الاعتقاد، قد تصبح البشرية مخيفة متوحشة، خصوصاً أنها لم تكوّن بعد أهدافاً وجودية أخرى، ولم تستوعب بعد معنى لظهورها الغامض على الأرض ولاحتمال اختفائها القسري الجمعي منه.
نحتاج كلنا اليوم، نحتاج التحاب والتراحم والتراص تلاصقاً روحياً (لا جسدياً في هذه المرحلة) حتى نخرج من هذه المعضلة البشرية الوجودية، محافظين على نوعنا البيولوجي ومكتسباتنا الروحية والعقلية والنفسية الحضارية. لا نريد لهذه التجربة أن تعيدنا لزمن الغلبة للأقوى، لا نريد لها أن تبرر أكل القوي للضعيف، لا نريد أن نتحول وحوشاً بعد جهاد مرير بالكاد أوصلنا إلى حافة التحضر النفسي. الكل مهم اليوم، لن نتخطى الأزمة الا بتعاضد الجميع، حفظكم الله جميعاً من كل شر.