يبقى الإعلام سوقاً، موجها أحياناً، ولكنه سوق، لا يقدم لزبائنه سوى السلعة التي يرغبونها ويتفاعلون معها. نحن، جماعياً، مسؤولون عن المزايدة والإسفاف والمنهجية الطائفية والقبلية الإعلامية، لأننا وبكل بساطة نستثار ونتوجع كمن على رأسه الأصلع الأملس بطحة حمراء يانعة، ونحن نستثار ونتوجع لأننا مغيبون وطائفيون وقبليون، فلو لم نكن قبليين لما أثارتنا إشارات تعيب هذه القبيلة أو تلك، ولو أننا تخطينا المرحلة إلى المدنية الحقيقية لاستوعبنا أن كل أسرة على وجه الأرض، وكل امتداد دم بشري له محاسنه الملحمية ومساوئه الفضائحية… لا نستثني أحداً، ولكننا ندافع ونتدافع وكأن تواريخ أسرنا ستدخلنا الجنة.
ولو لم نكن طائفيين، لما قلب الدنيا وهز البرلمان أن يثرثر إنسان بهرائه من الطرف الآخر من الكرة الأرضية، ولما انتشرت أخيراً «بوسترات» حمراء على حوائط جامعة الكويت في كل مكان لتعيد إثارة النفوس وتأليب الحمية المذهبية على موضوع انقضى وكأننا نعز على أنفسنا الهدنة ونأبى السلام، ولو لم نكن مغيبين لافترش التاريخ مناهجنا فدرسناه بكل جوانبه حتى لا نهتاج ونتناطح ما إن تظهر قصة هنا أو تُروى أخرى هناك، ولاستوعبنا أن هذا التاريخ قصة إنسانية لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تكون صفحات ناصعة البياض.
لو لم نكن مغيبين لتعاملت مناهجنا مع التاريخ العراقي الكويتي، ولعرضت لنا الفكر المسيحي واليهودي ومسحة من الأفكار الدينية والفلسفية الأخرى بشكل عرضي موضوعي، ولقدمت لنا ملَكة اللغتين العبرية والفارسية، اللغتين الأكثر أهمية لتعلمنا شيئا من مفرداتهما، بعد العربية والإنكليزية، وذلك من المدخل المنطقي لجيرة أصحاب هذه اللغات لنا ولعلاقاتنا المتوترة بهم.
لو لم نكن مغيبين لما أفرد منهج التربية الإسلامية الصف الحادي عشر باباً في الكتاب حول الجن وطبائعهم ومأكلهم وتزاوجهم، متخطين بذلك الذكر الفلسفي للجن في القرآن صانعين منهم أعداء غير مرئيين، ومصدر رعب وتهديد لنا وكأننا انتهينا من أعدائنا الإنسيين حتى نصنع من الجن حرامية ومتقمصين ومغتصبين.
نحن قبليون وطائفيون ومغيبون عن حقائق وتواريخ وعوالم ولغات وأديان، نحن ضحية مناهجنا الساذجة الخاوية المتعصبة، ضحية حكوماتنا المرتخية المستسلمة المؤمنة بتغييب الشعب لتربح الحرب، بينما هي لا تحارب إلا نفسها ولا تقضي إلا على البناء الكويتي الذي تشكلت لتقيمه، نحن ضحية ظروف محلية وإقليمية وإرث سوداوي ثقيل وعقلية منغلقة متوارثة. نحن الضحية ونحن الجلادون.
وعوضاً عن أن نلتفت إلى من غيبنا وقهرنا، انقلبنا على بعضنا بعضا ننال من أسرنا وأصولنا والتي هي في النهاية تصب في مصب واحد، نتطاول على معتقدات بعضنا بعضا والتي هي في النهاية تحت مظلة دين واحد، نتعاير بتاريخنا وكلنا فيه شركاء.
وبعد، هل نلوم الإعلام على استثمار وبائنا الجماعي هذا؟ إنهم ببساطة يبيعوننا ما نشتهي، ويقدمون لنا ما يثيرنا. مخربة قناة سكوب؟ مسفة مسلسلاتنا؟ مؤزمة جرائدنا؟ لا نشتري سلعتهم، فيصنعون لنا غيرها، ولكن، طالما نحن «شرَايين»، فمن الغباء ألا يبيعنا الإعلام، خصوصاً الرخيص المتربح منه، وألا يستغلنا المألبون، وألا يحركنا نوابنا المؤزمون.
إن تُغلق قناة، فستفتح مئة غيرها، ولكن أن نغلق قلوبنا عن التطوف والقبلية والأوهام، فعندها ستتفتح آفاق الدنيا وسنشعر بصغر وتفاهة دائرة «الخناقة» التي ما زلنا ندور فيها منذ عقود. قناة سكوب لا تستحق المقاضاة، ومناهجنا تستحق المقاضاة، وعقولنا تستحق المقاضاة، ورضوخنا يستحق المقاضاة، وليتنا ننال حكما قاسياً علّنا نصحو من الغيبوبة قبل فوات الأوان.