صفقة

حان الأوان لأن نعترف جماعياً أننا مسؤولون؛ أن سمعنا في يوم تعليقا طائفيا فقبلنا أو سكتنا، أن حشونا عقول أبنائنا بإساءة فقط لينجحوا في الاختبار، أن زرعنا فيهم الشعور بالمظلومية فقط لأنهم أقلية، أن تحججنا بالخوف، أن تحججنا بالحاجة للشعور بالأمان.

لصديقتي رأي بأن الدين «الحق» لا مجاملة فيه، ولكل طرف أن يعلّم أبناءه هذا «الدين الحق» من وجهة نظره. كان هذا ردها على تعليقي بأن مادة التربية الإسلامية تؤسس للفرقة وتفرض منهجية واحدة على أطياف مختلفة، سألتها كيف ترين صياغة الحل؟ قالت بأن تتعلم كل طائفة مذهبها كما يحلو لها في المدرسة، قلت حتى لو أثارت الكراهية والحقد أو شتمت الآخر؟ قالت نعم، حتى لو. ضحكت وأنا أعتقد أنني أفحمتها من ردها، ولكن، بعد صور الأسلحة المخزنة لخلية مسلحة تابعة لحزب الله وقبلها التفجير الدموي لـ«داعش» في الكويت، هل نحن بعيدون عما تقول صديقتي؟

يعلم منهج التربية الإسلامية درسا طائفيا في المدرسة، فيرد عليه الأهل بدرس طائفي في البيت، لا أقول إن أحدهما نتاج الآخر، بل أقول إنهما متوازيان مع بعضهما، وفي الواقع، نحن، شعبا وحكومة، نطبق تحديداً ما تقترحه صديقتي، نحن نعلم أبناءنا «الدين الحق» كل من وجهة نظره، فمؤلفو منهج التربية الإسلامية يكتبونه من وجهة نظرهم، والأهل يحكونه من وجهة نظرهم، والمنابر والمساجد والحسينيات تعلنه من وجهة نظرها، فتعددت وجهات النظر، وكلها في العنف وجهة، فتعددت التهديدات، ودخلت علينا الأسلحة والمتفجرات، وغادر الأمان وحل الخوف والريبة، وباب شر إذا فتح يحتاج إلى عقود لأن، وربما أن، يغلق.

ولكن تعدد وجهات النظر شيء طيب. نعم، عندما يكون صراعا فكريا، وليس عندما يكون تباينا يؤمن أصحابه بالموت دونه أو بالقتل من أجله. نحن لا نعرف كيف نختلف بسلام، لأننا لم نتعلم أن نختلف بسلام، تعلمنا أن المختلف عدو، يتربص بنا وبديننا، تعلمنا أن ممارسته المختلفة لعقيدته هي دليل على كراهيته لعقيدتنا، وأن إيمانياته المتابينة مع إيمانياتنا هي تربص بنا، وأن رؤيته التاريخية المخالفة لرؤيتنا هي إعلان حرب علينا، تعلمنا أن المختلف كافر وما تعلمنا على الأقل كيف نتعايش مع «كفره» ولا كيف نصنع سلاماً مع اختلافه، فنحن نعيش في الماضي، في تاريخ دموي، جرجرنا ذيوله السامة إلى حاضرنا، وها نحن نعيش ونعيث فساداً.   

إذا انتقدت منهج التربية الإسلامية فأنت إما خائن لطائفتك أو طائفي، وإذا انتقدت حزب الله فأنت إما خائن لطائفتك أو طائفي، فسكتنا جميعاً، وعند كل حادث كنا نقول: هذا حادث معزول، وحدتنا، وطنيتنا، ثم نسرّ في آذان الأبناء بما لا يسر، وهذه هي النتيجة اليوم، كلنا مذنب، وكلنا مسؤول عن ذنبه.

حان الأوان لأن نعترف جماعياً أننا مسؤولون؛ أن سمعنا في يوم تعليقا طائفيا فقبلنا أو سكتنا، أن حشونا عقول أبنائنا بإساءة فقط لينجحوا في الاختبار، أن زرعنا فيهم الشعور بالمظلومية فقط لأنهم أقلية، أن تحججنا بالخوف، أن تحججنا بالحاجة للشعور بالأمان، أن ما بحثنا عن طريق آخر، أن ما تنازلنا وترفعنا، أن ما رددنا بالمحبة والتفهم حتى تجاه الكراهية والحقد، أن ما تركنا التاريخ في الماضي يرقد بسلام، أن ما تركنا الحاضر في الحاضر ينمو بأمان. كلنا مذنبون، وكلنا مسؤولون عن ذنوبنا.

كنا نحيا فوق أرض محشوة بالنفط، أنعمت علينا بخيراتها وعصمتنا من الحاجة وأرغدت علينا العيش، استخرجنا نفطها وحشوناها سلاحا وضحايا، وبقينا نهتف «هذا الوطن ما نبيعه»، فماذا نسمي ما يحدث؟ أليست هذه صفقات دم؟ ألسنا نجني عائد استثماراتنا الداخلية والخارجية؟