صفاقة صريحة

ليس تصريح ترامب الصفيق بغريب عن مواقفه السابقة من القضية الفلسطينية، بل لنقل عن مواقفه من القضايا الإنسانية كافة والمواقف المبدئية حتى في بلده، دع عنك في الدول «النامية» البعيدة، ليس في موقفه أي تناقض، بل لربما «يحمد» له الوضوح السافر في الصفاقة، تلك التي تضرب عصفورين بحجر بالنسبة له: تجعل مواقفه واضحة وقوية تماماً، وتلجم المناوئين له من حيث عدم تمكنهم من اصطياد صفاقات أومواقف لا أخلاقية خفية عليه، هو بذاته يعلنها بوضوح وصراحة، فكيف توقف شخصاً عن جنون محرج هو لا يكترث أصلاً بمحاولة إخفائه؟
إن التآمر على فلسطين ومحاولة انتزاع القدس تماماً من أيدي الفلسطينيين ليست بحالة مستجدة حتى بدرجة عنفوانها في عصر ترامب، هي فقط مكشوفة بوضوح في زمننا هذا، الذي بظهور قيادات مجنونة مختلفة إبانه في أنحاء العالم، من الولايات المتحدة إلى بريطانيا إلى روسيا وشرق آسيا إلى الشرق الأوسط، ما عاد الموقف الرخيص محرجاً ولا القبيح يحتاج تزييناً، إنما شعار المرحلة هو «على عينك يا تاجر». بكل صراحة، ليس لدي خيبة أمل ولا حتى اندهاش من هذا الجنون الجديد، ببساطة لأنه ليس جديداً، بل كان هو دوماً قادماً نحونا مثل قطار أخرجته سرعته الجنونية عن قضبانه ليهرسنا جميعا تحت عجلاته. لم يتغير موقف الإدارة الأمريكية قيد أنملة من القضية الفلسطينية، ما تغير هو طريقة التعبير ودرجة احترام العالم للشخص المعلِن، أما عدا ذلك، وحتى في أفضل الفترات الزمنية للعلاقات الأمريكية الفلسطينية، ما أتت التصريحات والمواقف لتشير إلى غير هذه النتيجة الحتمية: تغريب الفلسطينيين داخل دولتهم وتوزيعهم في «جزر أرضية عشوائية» داخل محيط إسرائيلي كبير.
لربما صدمتي الحقيقية كانت إبان فترة حكم أوباما، حيث سمحت لنفسي وقتها أن يحدوني الأمل، إلى أن تبين أن موقف أوباما لا يختلف، بل لربما فاق سوءاً مواقف الرؤساء الآخرين بجودة تغليفه الكلامي وبحسن شخصية قائل الكلام. بل إن موقف أوباما كان واضحاً منذ أن كان مرشحاً للرئاسة، وهو موقف فاتني وقتها تماماً وأنا أتمناه رئيساً قادماً، وهو يكرر مراراً وتكراراً أن القدس عاصمة إسرائيل وأنها غير قابلة حتى للتقسيم. أوباما كان أقدر على بيع الشر هذا مغلفاً بسوليفان حسن تعابيره وجودة شخصيته، وهذا هو كل فرقه عن ترامب. بينهما، تعاملاً مع القضية الفلسطينية، لربما أختار ترامب؛ فوقاحة تصريحاته ووضوح عنصرياته تعفينا من المحاولات المستمرة لتوضيح الواضح، إلا أنها في الوقت ذاته ترفع سقف الصراحة العنصرية المفجعة وتجعل ما كان الناس سابقاً يحرصون إحراجاً وخجلاً على إخفائه، قابلاً للتصريح بل وبكل ثقة وفخر. لا أدري، هذا أسوأ من ذاك، ونحن معصورون بين الاثنين.
أختلف معك يا جريدتي «القدس العربي» حين ورد في افتتاحيتك أنه «وبمعزل عن فشل ذريع سوف ينتظر الصفقة، لسبب جوهري أول، هو أن أية جهة فلسطينية لن تقبل بها مهما بلغت درجة التهاون والخنوع، وسبب ثان هو أنها ستجابه برفض شبه تام من المجتمع الدولي، فمن الذي يضمن أن أي رئيس أمريكي ديمقراطي مقبل سوف يصادق على حماقة سياسية ودبلوماسية وأمنية مثل هذه، تضرب عرض الحائط بعناصر مقاربة أمريكية للصراع العربي ـ الإسرائيلي عمرها عقود؟». في الواقع، أرى الأجواء مهيأة للحماقات، بل لطالما كانت مهيأة على مدى المئة سنة سابقة، كل ما هنالك أنهم كانوا يطبخوننا على نار هادئة حتى اختنقنا جميعاً بالسكوت والتهاون وطول الانتظار والاعتياد، ولا أدل على ذلك من التعاطف العربي تجاه إسرائيل الظاهر اليوم من خلال افتتاح السفارات واستقبال الشخصيات السياسية وغيرها من الخفي الأعظم، فماذا ننتظر حتى نعترف بالمصيبة المقبلة؟
لا أعتقد أننا يجب أن نتعامل بتهاون مع أي جنون يقدم من الرئاسة الأمريكية، ولا أن نأخذ رفض المجتمع الدولي لهذا الجنون على أنه تحصيل حاصل، ولا أن نتوقع رفض الرؤساء الديمقراطيين الأمريكيين القادمين لهذه الصفقات المجنونة، فالتاريخ يقول إن القطار سائر في الطريق ذاته الخارج عن قضبانه، وهو قادم نحونا بلا شك، ورغم أن إحياء الأمل في الصدور مطلوب، لكن مواجهة الواقع اليوم هي الحاجة الملحة للمحافظة على البقاء الذي يسحب من تحت أرجلنا كل يوم.