كتبت قبل فترة عن ضرورة مراجعة الكثير من الكتب التراثية الإسلامية، تنظيفاً لما علق بها من شوائب تتنافى والمنطق الإنساني أولاً، ثم تحفيزاً لقراءتها في سياقها التاريخي ثانياً، فالقصص التي نقرؤها عن الرسول الكريم وعن الكثير من الممارسات الحياتية لأصحاب ذاك الزمان لا يمكن استقطاعها من السياق التاريخي، أي لا يمكن رؤيتها كأمثلة معيشية لحياتنا في هذا الزمان.
وإن عدم أخذ السياق التاريخي في الاعتبار هو ما يتيح للبعض استعراض أحداث ذلك الزمان، خصوصاً استقطاعها من حياة الرسول الكريم، على أنها قوانين لكل زمان ومكان وملزمة لحياتنا التي تخطت الألف والأربعمئة عام، بعيداً عن سنوات تنزيل الرسالة الإسلامية.
لذا، لا يزال الشيخ الدكتور صالح الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية، كما فعل قبله الإمام الخميني في كتاب “تحرير الوسيلة”، قادراً على إقرار زواج الصغيرات في فتوى رسمية نشرتها الصحف السعودية في 13 يوليو الماضي، انطلاقاً من واقعة زواج الرسول من السيدة عائشة وهي طفلة في السادسة، ثم تثبيتاً بتفسير الآية الكريمة التي تقول “وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ”، وعليه فهناك إثبات من القرآن وآخر من السنّة يبيح مثل هذا الزواج.
وقد أكد فضيلة الشيخ أنه بناءً على شرح ابن بطال لصحيح البخاري فإنه يجوز تزويج الصغيرات “وإن كنّ في المهد”، ولكن لا يجوز البناء بهن إلا إذا احتملن الوطء، وهذا يختلف من صغيرة لأخرى، مؤكداً أنه في الشريعة الإسلامية لا يمكن تحديد سن لزواج الفتاة. وعليه، فإن ورود زواج الصغيرات في صحيح البخاري، كما ورود رضاعة الكبير في صحيح مسلم، أصبحا يستخدمان كإثبات لصحة الاستمرار في هذين التشريعين.
هنا نحتاج إلى نقلة نوعية في طريقة قراءة الكتب التراثية الدينية، حتى ما يصل منها لقدر وجلال الصحيحين، ومن الضروري هنا أن نقرأ مثل هذه التشريعات قراءة تاريخية لتبيان أن الفتيات، كل الفتيات، من كل الملل والأديان، كن يتزوجن وهن صغيرات، وأن صفقات تزويج الصغيرات في المهد كانت تتم لحفظ نسب أو لتوثيق عروة أو لغيرها من الأسباب.
وعليه، فإن تغير الزمان ومتطلباته وظروفه الحياتية، يتطلب قراءة مختلفة لهذه النصوص على أنها تشير إلى حالة تاريخية لا لتشريع يمتد عبر الزمان، فاستمرار الثقافة الإسلامية على نهج القراءة الحرفية خارج السياق التاريخي سيربطنا، كما هي الحال الآن، في أماكننا، وهي حالة عصابية تصيب العقل والبدن، حيث يتعاند فيها الإنسان مع منطق زمانه، ويقهر فيها بدنه ويذل فيها عقله للقبول بما يتنافى ومنطق العصر وحقوق الإنسان فيه.
إن فتوى مثل تلك التي أطلقها الشيخ الفوزان وقبله الإمام الخميني تدفع ثمنها آلاف الطفلات الصغيرات اللاتي يدفعهن أهلوهن ثمناً لعادات بائدة أو صفقات رابحة، وبدرجة عالية من الأريحية وراحة الضمير، فدوما ما يكرر “فقهاء” هذا الزمان أن الدين كرم المرأة، هذا الدين الذي قام على ظهر امرأة، الزوجة العظيمة خديجة، وامتد من نسل امرأة، حبيبة رسول الله فاطمة، وتأرخ وتشرع بلسان امرأة، زوج الرسول المدللة عائشة، فمتى تنطلق فتاوى تكرم المرأة حقاً ولا تعاملها كمتاع أو وعاء رغبة وإنجاب؟ بل متى تتوقف الفتاوى المهووسة بالجنس لا غيره؟ ومتى نسمع بفتوى تأمر بتحديد سن الزواج حتى يتسنى للمرأة أن ترغب لا أن “تحتمل” الزواج فقط؟ ومتى نسمع بفتوى تحرم اغتصاب الزوج لزوجته، وأخرى تأمر بمعاقبته إن هو آذاها جسدياً أو تعدى عليها لفظياً؟ ومتى ننتقل من مرحلة الشعارات الفارغة إلى التشريع الحقيقي المعز للمرأة والذي بدأ في عصر النبوة؟
وإلى أن يتم الإصلاح ويتحقق الحلم، كم صغيرة ستدفع الثمن؟ وكم طفلة ستسقط أسفل فحل فظ ارتأى هو أنها قادرة على “تحمل الوطء” كما تبين الفتوى، حيث إن الأمر متروك لتقدير الزوج “البالغ” على ما يبدو، فيستبيح طفولتها ويغرقها في دمها؟ إلى متى نعيش هذا التناقض والشوفينية المريضة؟ إلى متى؟