في ندوة “الدستور المفترى عليه” التي ألقاها د. غانم النجار يوم الأربعاء الماضي أوضح الدكتور أن الدستور هو عقد بين الحاكم والمحكوم، هو وثيقة ترتب العلاقات بما يضمن الأمن والاستقرار، إلا أنها ليست وعداً بسعادة أبدية ولا نبوءة بمدينة فاضلة، بل هي تفقد فاعليتها إذا ما لم تتطور عقليات الناس وينهج المجتمع بثقافة تجعل لمواد الدستور قيمة حقيقية.
ليس أفضل من أحداث يوم الأربعاء المؤسفة للتدليل على عمق وبداهة ملاحظة الدكتور النجار، فللكويت دستور جيد بكل المقاييس، والذي على الرغم من كل محاولات اختراقه وتكميمه، فإنه كان منذ وضعه مفعلاً وحاضراً كحكم بين الشعب وحكومته ونظامه. نعم، أنقذنا الدستور مرات عدة من مآزق كادت تودي بنا دولة وشعباً، ولكنه يُسجَن اليوم حبرا على ورق بسجن عقلياتنا المعلولة حكومة ونوابا وشعبا.
فحكومتنا، بتواطؤ مع بعض أفراد من الأسرة الحاكمة، تمعن تقويضاً في الدستور، تتآمر لتلغي تطبيق مواده، تتعرج في مشيتها تفادياً للاستجوابات المستحقة بأمره، تتعامل معه كأنه عبء ثقيل، صليبها تحمله فوق ظهرها، لعنة تستعين عليها بالحواة والسحرة وصانعي التمائم. وليس حال النواب بأفضل، فالدستور بالنسبة إليهم علبة “ماكنتوش” ينتقون منها ما يأتي على ذائقتهم، ويضعونها على الرف متى ما أتخمت معداتهم، هذا غير بعضهم الذي يعتقد “شوكولاتة” الدستور علاجا كيماويا مضطرا هو إليه، لحين القضاء على سرطان الديمقراطية والمدنية.
أما الشعب فتائه بين هذا وذاك، الحكومة تشده من كمه والنواب يشدونه من شعره، وهو لا يستطيع فكاكا، وكيف له الفكاك وهو فاقد مفاتيح قيوده، وهو المغيب عن دستوره وحقوقه، عن الثقافة الإنسانية الحقة، عن مفاهيم خلاصه المتجلية في مبادئ الحرية والمدنية التامة الخالصة؟ بين “دفتي” وطن صغير يحمل هذا الهم الكبير، كيف لبعض حبر على ورق أن ينقذنا إن لم نبث في كلماته الحياة؟ من سيخلص القراءة ومن يتعهد التنفيذ ومن يقدس روابط هذا العقد الاجتماعي السياسي إن كانت كل الأطراف غائبة عن جمال هذا العقد وروح معناه؟
لابد من رحيل الحكومة برئيسها، تلك التي حملت الشعب إلى هذه الدرجة من العنف، ولابد من رحيلها بالطرق الدستورية التي هي صمام أمان لنا جميعاً، وإلا فستكون الأحداث الحالية تأسيساً لمنهجية “انزل الشارع وكسّر باب البرلمان” لتزيل هذا الوزير أو تقيل هذا المسؤول، طاعناً الدستور في قلب قلبه.
ليس معنى ذلك استنكار الحراك الشعبي، إن هو إلا متمم ومؤمن على العملية الدستورية، ولكنه استنكار لفوضى غير مبررة بوجود دستور وبرلمان ومراس ديمقراطي، كما لا بد من رحيل هؤلاء النواب الذين فوق فسادهم وعنصرياتهم يصرون صرير باب صدئ على لعب دور الأبطال، صافعين وجوهنا بوقاحة قيادتهم لمعارضة الفساد وهم أشهر وأقدم اللاعبين في ملعبه.
وأخيراً لا بد من رحيل العقلية العنصرية عن رأس الشعب، لا بد من تغيير الجوهر ليتغير المظهر، لا بد أن يتطور المجتمع وتتغير العقليات لتجل القانون فوق إجلالها لانتماءاتها، لتقدر الدستور كعقد ملزم حق قدره، لتنحاز دوماً إلى مبادئ الحرية والمدنية والعدالة قبل أي مبادئ أخرى، ولو على حساب راحتها ومنفعتها.
هذا طريق طويل، أدرك ذلك، ولكن الجهد يبذل على قدر عظمة الهدف، وأما حالياً، فإننا نحتاج إلى التهدئة، لأن نعود إلى بيوتنا ونغلق علينا أبوابنا ونقلع عن هذا العناد المقيت المتبدي من كل الأطراف، ثم نعود ونجتمع في دفء مجلس الأمة وعلى أوراق الدستور، نبحث فيها عن مخرج للأزمة الحالية، ولا بأس من استمرار الحراك الشعبي المسالم، يقود فيه الشعب حراكاً نظيفاً يأبى التسليم لنواب منهم من فسد وارتشى وأتى ما هو أعظم وأجلّ، وإلا كيف تصلح الحال ويتبدى الهدف إذا كانت قيادة حركة التطهير فاسدة؟
“آخر شي”: بعد رؤية الصورة المتوحشة في معناها للسيد مسلم البراك محاولاً كسر باب مجلس الأمة، توقعت في صباح اليوم التالي اعتذاراً، أو على الأقل تبريراً بهياج اللحظة التي قادت لهذا العنف المهين لأحد أقدس المباني السياسية الكويتية، فمهما بلغت رداءة الحكومة، لا تعالجها بما هو أردأ منها، إلا أن السيد البراك خرج ليقول إن “تلك خطوة وغدا خطوات” وإن “الخطوات القادمة أكثر تصعيداً”، يا حر قلبي ماذا ستفعل أيها السيد أبعد من ذلك؟ أتستدعي قوات درع الجزيرة ليتعاملوا مع الحكومة؟