صدق أو لا تصدق

لأن إسرائيل عصابة، بلطجية تمولها أكبر حكومات العالم، هي غير قادرة، رغم التمويل والمساندة والمحاولات المستمرة لتجميل القبح والتشوهات السياسية والأخلاقية، على اتباع أقل وسائل الحرب شرفاً، هذا لو كان للحروب شرف. يتّبع هذا الكيان المنحط أدنى وسائل الصراع وأشدها دمامة ودناءة، تيمناً بحليفته والكيان الأم له، فلا يتوانى عن قتل المدنيين وتفجير الأطفال وهم في مدارسهم وغرف نومهم بل وحتى خيام لجوئهم، ولا يتردد في تنفيذ عمليات اغتيال رخيصة ولو كانت كلفتها آلاف الجثث الصغيرة منها والكبيرة، وبعد أن يمعن قتلاً في المدنيين والأطفال يتجه، سائراً على أشلائهم، لاغتيال القيادات المتصدية له، قانصاً في طريقه المزيد من الأبرياء، مفجراً في رحلته الدنيئة تلك كل مستشفى ومأوى ومصدر إسعاف يمكن أن يلجأ إليه هؤلاء. إنها الحرب الرخيصة الدنيئة في أحط مستوياتها.
وهكذا تتوالى الاغتيالات من قيادات إيران إلى قائد «حماس» إسماعيل هنية وصولاً إلى الأمين العام «لحزب الله» حسن نصر الله، والتي تستهدف جميعها كل وأي من يقف مع الجبهة الفلسطينية ودفاعاً وصداً عن غزة والضفة فيما تتعرضان له حالياً من حرب إبادة جماعية. فكيف يفترض بالعالم العربي أن يتفاعل مع أخبار اغتيال هؤلاء؟ ما هو رد الفعل تجاه تساقط جبهات دفاعية كانت تصد وترد ولو بدرجة؟ صدق أو لا تصدق، هو التصادم الطائفي، واتهام المغدورين بالعمالة، ووصمهم بالإرهابيين، وصولاً للاحتفاء بموتهم وشكر إسرائيل على قتلهم، في تفاعلات أبعد ما تكون عن المنطقية الإنسانية الطبيعية أو حتى عن الحنكة السياسية اللحظية، ذلك أننا نحيا في عالم موبوء بالعنصريات والطائفيات التي تطغى على المنطق والفطرة، دافعة بنا للفجور في خصومة لا وقت لدينا لها ولا إمكانية لدينا للتعامل معها. كل الأمم تختصم وتختلف، لكن «إحنا غير»، ولربما نحن نفجر في الخصومة تحديداً بسبب هذا الاحتلال الذي استقر في قلب أرضنا نافثاً سمومه في قلوبنا تجاه بعضنا بعضاً حتى نكره ونتحارب ونتباعد، فتخلو الساحة ويتفرد هو بنا، كل على حِدة.
حماس وحزب الله وحوثيو اليمن، كلها تكوينات سياسية صرفة رغم طلائها الديني ومنطلقاتها الطائفية، ولأنه لا يوجد تكوين سياسي نظيف في العالم ولن يكون، لا يخلو تاريخ كل هؤلاء من كوارث سياسية وحربية، ماضيهم معجون بالبدايات المريبة، متجه لحاضرهم على طريق مليء بالدماء، هذا مما لا شك فيه ولا يستثنى منه أي تكوين سياسي ذي ذراع عسكرية في العالم. لكن هذه التكوينات السياسية، إضافة إلى النظام الإيراني، هي وحدها اليوم تقف صداً للوحش الصهيوني ورداً على جرائمه المتتالية بقيادات تعلم تماماً أن الثمن سيكون حيواتها مثلما قدمت مسبقاً حيوات أبنائها، وسقوطها سيتأطر انتصاراً للكيان الصهيوني وسيكون مصدراً لاحتفائه ودافعاً لتقويته. فكيف يتفاعل العرب مع هذه الأخبار، وهل يوحد مقتل قطبين سياسيين لطائفتين إسلاميتين الكلمة أمام العدو الصهيوني ولو مؤقتاً وعلى الرغم من مآخذ أو جرائم هذه الأحزاب مسبقاً، أم أن التحليلات ستذهب لتبيان، جهراً أو تضميناً، أن توقيتات الاغتيالات تشير إلى خيانات مسبقة؟ نحن نعرف أنفسنا، ونعرف كيف وإلى أين سيتجه التفكير العربي المريض، بكل أسف.
التحليل وفهم الواقع الحالي مهمين بلا شك في اللحظة الحالية المتفجرة، لكن لربما نقول خذوا لحظة، إذا سقطت حماس، وسقط حزب الله، وسقط الحوثيون، وسقطت الحكومة الإيرانية كما تتمنى الأطراف العربية «القطبية»، فمن سيبقى صاداً عن فلسطين؟ أنت، يا من مهنتك الزعيق والشتم في منصة إكس؟ وها هي التشرذمات الفكرية تظهر بعد اغتيال حسن نصر الله، تماماً كما ظهرت بعد اغتيال إسماعيل هنية: فإن كنت طائفياً فقد ترى أنت شيعياً «خارجاً عن ملتك» في حسن نصر الله، وإن كنت ثورياً سياسياً (وأحسب نفسي كذلك) قد ترى فيه حليفاً لإيران متورطاً هو وحليفته في جرائم النظام السوري ضد شعبه، وإن كنت خليجياً قد ترى في حزبه الأم، السابق لحزب الله، شبهة تورط في أعمال إرهابية ارتكبت في ثمانينيات القرن الماضي. أما صاحب العقل والضمير، وإن كان أي أو كل من هذه الصفات، فلا يستطيع الآن أن يرى أياً من ذلك، لا يمكن أن يرى حالياً سوى فرحة صهيونية لا يمكن بحال من الأحوال أن يشترك فيها ومعها. لا يرى سوى اهتزاز جبهات كانت تصد، ولو إلى حين، ولو بدرجة من الدرجات، وترد على العدو الصهيوني. لا يرى سوى تراجع لحزب هو الوحيد الذي استطاع حماية الجنوب اللبناني في وقت من الأوقات ورد العدو الصهيوني عنه ولا يزال. لا يرى سوى بركة دماء تتسع وزمن نكبة يمتد. فأي منطق إنساني طبيعي فكري أخلاقي يمنع عنا الحزن وقول -ولو على أقل تقدير- كما قال مفتي سلطنة عمان، أن «إنا لله وإنا إليه راجعون»؟
تتضخم المصيبة حين نتذكر أن هذه الاغتيالات المتتالية إنما تدل على اختراقات أمنية خطيرة في جبهات هذه الأحزاب السياسية، وكذلك في جبهة النظام الإيراني؛ ما يعني أن كل أجهزة هذه الكيانات مخترقة مكشوفة، ما يعني بالمحصلة أن الجبهة الفلسطينية بمدنييها وأطفالها مكشوفة كذلك، وتتعاظم هذه المصيبة حين تغطي أخبار هذه الاغتيالات وتداعيات هذه الأخبار بعنصرياتها وطائفياتها وفتائل نار التخوين والتشكيك المتقدة بين أطرافها على أخبار حرب الإبادة التي لم تتوقف للحظة في غزة والجنوب اللبناني والضفة. فهل هناك ما يبهج في كل ذلك؟ بل هل هناك سبب يمنعنا عن الحزن ويمنع الحزن عنا؟ أليس في سقوط القيادات واهتزاز الأحزاب التي تصد عن فلسطين في هذا الوقت الذي تعاني فيه تلك الفلسطين واحدة من أعتى وأقسى هجمات الإبادة عليها سبب كاف للحزن والتأسي؟ كيف لا ننعى هزائم هذه الأحزاب السياسية وهي تمثل هزائم للجانب الفلسطيني؟ كيف يكون الحزن بسبب نجاح إسرائيل في جريمتها باغتيال قائد حزبي مدافع عن فلسطين، ولو كان شيطاناً رجيماً، طائفية أو خيانة لأوجاع سابقة؟ نفرح يعني مع إسرائيل؟ هل جن جنونكم؟