صباح

غادرت الشحرورة صباح، وكما عاشت بفرح، على الأقل ظاهرياً، فقد غادرت بفرح. وصباح حالة إنسانية خاصة، حالة تفاؤلية محبة للحياة، تمسكت بهذا التفاؤل وتلك المحبة إلى آخر لحظات حياتها. لربما تتمحور أسطورتها ليس تحديداً حول غنائها ولا حول أفلامها على الرغم من العدد الوافر منهما الذي قدمته وأسعدت به جمهورها، إنما أسطورتها تتمحور حول الطريقة التي اختارت بها أن تعيش حياتها، أن تعيشها بسعادة، أن تعيشها باستمتاع، والأهم أن تعيشها في النور.
ولربما هذا «العيش في النور» هو أكثر ما أزعج نقادها، فهي في النهاية امرأة شرقية، والشرقية لا تعيش «مكشوفة» في النور، بل تعيش محتجبة عن الأعين متخفية في الظلام، مكبلة بألف قيد ومربوطة بألف عيب وحرام وممنوع. لم تلتفت صباح ولو لدقيقة لهذه المحرمات والمحظورات، فعاشت حياتها بانطلاق وصخب دون أن تؤذي أحداً في يوم، على الأقل حسب الظاهر من حياتها. واذا ما اقتربنا أكثر من الحالة «الصباحية» لنتعرف على السبب الذي جعلها دوماً موضع اهتمام الإعلام والصحافة وموضع النقد وأحياناً السخرية المجتمعيين، هو أنها عاشت حياتها كرجل. إن هذا النمط المعيشي الحر الصاخب هو نمط ليس فقط مكفول للرجال بل هو مستحسن ومفضل في أوساطهم، أما بالنسبة للمرأة فهذا نموذج محرم، ومن تجرؤ على التفكير به تصبح كائنا غريبا بين جنسين، لا هي امرأة ولا هي رجل.
إن الرجل الذي يحيا حياته كاملة بقوة واندفاع، بصراحة ووضوح، ذاك الذي يهتم بنفسه وبمظهره، ويحافظ على صحته إلى أبعد سنوات عمره، ذاك الذي يحيا بحرية فيكرر تجارب زواجه ومن فتيات هن في سن بناته أو حفيداته دون إجبار أو قسر من نوع، هذا الرجل ينظر إليه على أنه نموذج، رجل عرف كيف يعامل الحياة ويتعامل معها، رجل عاش الحياة بطولها وعرضها مستمتعاً دون أذى. في فكرنا الأبوي الشوفيني، كل هذه المتع، كل هذا التحدي للحياة، والأهم كل هذا الوضوح والصراحة في التعامل مع معطيات الحياة هي مسموحة ومحبذة للرجل، الا أنها مبتذلة ورخيصة للمرأة. ولربما من العدل هنا أن نقول أن هذا التفكير الأبوي الشوفيني هو تفكير عالمي لا يخص منطقة دون أخرى، إلا أن شرقنا الأوسط، على عادته، لا يعرف الحال «الأوسط» فهو متطرف في كل حالاته، وعليه، فيم يتغامز الغرب على المرأة الحرة متعددة الزيجات، واضحة الحياة، يتنابزها الشرق فيسلخها بلسانه، ويفصلها عن أنوثتها، ويحملها شرور الحياة الدنيا ويبشرها بعذاب الآخرة.
إن ما «يغيظ» رجال الشرق ليس فقط أن عاشت صباح متحررة من القيود، مستمتعة بالحياة، مستخدمة حقوق كُفلت فقط للرجل، ولكن لأنها فعلت كل ذلك في النور، عاشت هذه الحياة بصراحة ووضوح، لم تحاول في يوم أن تخفي أفعالها ولا حتى رغباتها، كما أنها كانت دوماً ما تستخدم فارق السن بينها وبين أزواجها كمادة للتندر والضحك وكمصدر للمزيد من الحب والحنان النابعين منها. بالطبع، ليس هناك إنسان بلا أخطاء، ولست على كل الأحوال أرى أن حياة الفنانة صباح هي حياة مثالية، فالإنسان الذي يعيش الحياة بطولها وعرضها، ويعيشها أمام الناس جميعاً، لابــــد له أن يرتكب أخطاء، أخطاء يتضاعف حجمها تحت عدسة الشارع العام الذي لا يرحم، وخصوصاً اذا كان الشارع شرقـــياً، وتحديداً اذا كان المخطئ امرأة.
الا أن حياتها، بلا شك، كانت مميزة ومختلفة بطريقة ساهمت، بقصد أو دونه، في التهوية على حياة المرأة العربية المغلقة الأبواب والشبابيك.
أن أكبر مساهمة من صباح لحركة المرأة في العالم العربي تكمن تحديداً في وضوحها، في حياتها النيرة، في اختيارها أن ترتكب أخطاءها على الملأ، في اعترافاتها بها، في اعتزازها ببعضها وفي اعتذارها عن البعض الآخر. صباح الجميلة الممتلئة بالأنوثة، عاشت حياة الرجل الصاخب المفعم بالرجولة والثقة، وتلك معادلة تحتاج إلى قلب قوي، وجلد من صلصال، وأذن من طين وأخرى من عجين.
خرجت صباح محمولة على أكتف تهتز رقصاً على أنغامها حسب وصيتها، المشهد رهيب بلا شك، نعش يرتفع بكل ما للموت من رهبة، تصاحبه أغنية لصباح ورقصات أسفل الصندوق المحمول تودعها بصخب إلى مرقدها الأخير. يقف محبوها بدموع لا يعرفون كيف يطلقونها وهذه الموسيقى الفرحة تملأ خلفية المشهد، انه تحديداً المشهد الذي أرادته صباح سعادة وصخباً مفروضين على أكثر مشاهد الحياة حزناً ورهبة.
هكذا هي دوماً مختلفة ومخالفة، هكذا هي قوية حتى في موتها، هكذا ستبقى نموذجا نسويا يستعصي على النسيان، يهدد الرجال في «أعز ما يملكون»: تحررهم المجتمعي الذي اعتقدوه هبة من الطبيعة إليهم. صباح الجميلة، ارقدي بسلام.