أكاد أرى كل مشاكلنا تتمخض عن طريقة ونوعية تعليمنا لصغارنا، أعلم أن في هذا القول الكثير من التبسيط والتسطيح، ولكن غالباً أبسط الأمور وأوضحها هي الأكثر حقيقية في حياتنا. يكبر الصغار دون التأكيد كثيراً على التفكير النقدي، ذلك أن مناهجنا تعتمد التلقين لا الإقناع، يكبرون معتمدين بشكل يكاد يكون تاماً على النقل والنسخ في صور واضحة للسرقات الأدبية والعلمية، ذلك أن الإبداع والاجتهاد ليسا جزءاً لا من المادة المدروسة ولا من أسلوب تدريسها، يكبرون متفادين الكثير من الأسئلة، مواربين الكثير من الأبواب، متحاشين الكثير من المسائل العلمية والفلسفية، ذلك أن المناهج تحوطهم بألف خط أحمر، تربطهم بألف ممنوع، تكبلهم بألف حرام.
وكم نادت الأقلام بتعديل المناهج وناديت أنا، وإن على غير قناعة بأن التعديل كاف وأن التغيير مجز، إلا أنني ناديت على اعتبارهما أضعف الإيمان، فلربما هذا التعديل وذاك التغيير ينقذان ما يمكن إنقاذه، فيخففان من وقع التعنصر والتطرف اللذين ترزخ أسفلهما أجيال كاملة، إلا أن الحق الحقيق في رأيي هو ألا تعديل سيمحو الطائفية ولا تغيير أو تبديل سيرأب الصدع، فطالما أن المنهج الرسمي يقدم مادة دينية لطائفة معينة وعلى مذهب معين من هذه الطائفة، فسيبقى الصدع محفوراً والانقسام مرسوماً والتقسيم مخطوطاً وبمباركة حكومية رسمية.
وعندما ذكرت في مقابلة أخيرة مع د. سليمان الهتلان أن الحل الحقيقي يكمن في إلغاء تدريس مادة التربية الدينية، أياً كانت، من المدرسة الرسمية، كان رد الفعل عنيفاً ولكنه متوقع، ونابع من عقلية الضحية التي يتعامل بها المسلمون مع كل من يختلف معهم أو ينقدهم، فأي نقد هو مؤامرة على المسلمين، وأي تساؤل هو خطة لنسف الدين، وأي اقتراح تجديدي هو تغريب يراد به هدم أركان العقيدة، لمَ؟ لربما هي ظروف قاسية تاريخية وأصفاد شمولية حالية، لربما هي نوعية العقلية العربية الإسلامية، لربما هي سياسات خارجية، لربما هي خلافات إقليمية داخلية، لربما هي بعض أو كل تلك الجوانب التي تغذي هذا الشعور المستمر بالمظلومية، وتشجع هذا الدور الممل للضحية الذي أجاده العرب والمسلمون حد تصديقه التام، إلا أن العالم ونحن معه مللنا هذا الدور المكرر الذي ما عاد قادراً على استجداء تعاطف أو دموع. إما أن ننظر لأنفسنا بعين الواقع، أو ننتهي ونموت ونحن نمثل دور الضحية على مسرح بلا حضور.
نعم، الحل هو في إلغاء تدريس التربية الدينية في المدارس الصباحية واستبدالها بمقررات تواريخ الأديان، تعرف الطلبة بأديان العالم المختلفة، أو مقررات حقوق الإنسان والأخلاق، هذا على أن تسمح الدولة بتوفير مدارس دينية في فترة بعد الظهر أو العطل الأسبوعية، على غرار مدارس الأحد الكنسية، لمن يرغب في تلقين أبنائه العلوم الدينية وذلك بما يتماشى مع طائفته ومعتقده. من حق كل إنسان أن يلقن أبناءه علومه الدينية ومن خلال مدارس نظامية، إلا أنه ليس من حق الدولة أن تفرض منهجاً دينياً ذا رؤية طائفية ومذهبية واحدة على كل مواطنيها ومقيميها الذين لربما ينتمون إلى أديان وطوائف وربما أفرع متعددة من الطوائف، فالدولة يجب أن تقف في كل خدماتها على مسافة واحدة من الجميع. لا أدري كيف ينظر لهذا المقترح على أنه مكيدة ضد الدين، ولكن إذا فهمنا العقلية العربية الإسلامية البكائية، يمكننا أن نعرف حينها لمَ يعتقد البعض أنك إذا قلت «صباح الخير» عوضاً عن «السلام عليكم» فأنت تغريبي تآمري كيّاد للدين. دوماً هكذا نحن، مساكين مع سبق الإصرار والترصد.