“اتضح لي أنك لا تأخذين من الدين إلا ما توافق مع عقلك وهذا خطأ كبير ومصيبة”، قالها لي أحد المغردين على “تويتر” في خضم حوار تفضل عليّ به الأخ الكريم محاولاً إقناعي بأن الدولة الدينية هي الحق، وأن هذه الدولة هي دولة السنّة والجماعة، حيث أعلمني أنه يعرف مذهبي وحثني أن “ابحثي عن الأخطاء الفادحة في هذا المذهب”. ليست المشكلة في طائفية الحوار، فهو توجه أصبح معتاداً وما عاد يثير بي سوى شعور عابر بالحزن، ولربما لو أردنا التمعن في مبدأ حرية الرأي لرأينا أنه قد لا توجد طائفية في الحديث أصلاً على اعتبار أن للمغرد الحق في التعبير عن رأيه في المذهب، وإن كان رأيه يلغي المذهب بأكمله، يبقى هذا حقه وإن تطرف رأيه وساء أسلوب التعبير عنه وتوقيته. كما أن المشكلة ليست في ادعاء الأخ الكريم معرفة مذهبي، فالدين والمذهب يورثان بل يتعامل معهما الناس وكأنهما امتداد أصل وعرق أكثر منهما اختياراً فكرياً وعقائدياً.
المشكلة الحقيقية تكمن في اعتقاد شريحة كبيرة من الناس، منهم المغرد الكريم، أن العقل ليس هو المحكم الأول في الاختيارات العقائدية، ففي حال تعارض منطقك العقلي ومعطيات دينك أو مذهبك، تسكت عقلك وتخرس منطقك وتعلي كلمة العقيدة. ينطوي هذا المبدأ على اتهام خطير للدين يرميه به من يدعي الدفاع عنه ألا وهو تضارب الدين والعقل. فإن ثبت هذا التضارب ألا يكون ذلك بسبب التدخل البشري التفسيري للنصوص المقدسة؟ هل يمكن للإنسان الذي وجد نفسه برأس يحمل عقلاً يتساءل ويستفسر ويقيم ويمنطق أن يتجاهل هذا الجهاز الإعجازي فيتبع تفسيرات لا منطقية ومبادئ لا عقلانية؟ وإن استطاع فهل في ذلك صحة عقلية أو نفسية؟
لربما في هذا الصراع مع العقل يكمن التفسير للشدة النفسية والمعضلة الروحانية التي تعيشها شريحة كبيرة في مجتمعاتنا. إن الغضبة التي يفور بها الكثيرون حين يقع أمر ما ديني أو عقائدي محل نقاش لا يمكن أن تدل سوى على شكوك في قلوبهم أجبروا على كبتها وإخفائها حتى تحولت إلى ثورات وألم لا تلبث أن تهدر في وجه من ينبشها. فكيف لمن يجبر نفسه على أمر دون استتبابه للعقل والمنطق بل بعناد معهما، أن يجد سلاماً نفسياً أو راحة داخلية وهو يحيي تناقضاً يومياً وصراعاً حياتياً بين عقل يرفض ومشاعر خوف تستجيب وتستسلم؟
هل يجب علي أن أجبر عقلي على قبول زواج الصغيرات وإرضاع الكبير واستحلال العبودية وغيرها مما لا يقبله عقل أو منطق أو حتى فطرة فقط لأن الناس توارثته ورجال الدين أقروه؟ أوليس من الأولى استخدام فسحة التجديد المتوافرة في الدين لتطوير أفكار ما عادت تصلح للزمان والمكان لتصبح أقرب إلى العقل وإلى ظروف الحياة الحالية، وإلى التكوين الإنساني الحالي المجبول على حقوق الإنسان الحديثة؟ ألم تكن هناك ظروف تاريخية حتمت نصوصاً وتفاسير يجب أن تتغير الآن وتتطور؟ هذه أسئلة نحتاج أن نسألها في يوم ونجيب عنها في يومين، يعني في غضون ثلاثة أيام نكون حسمناها، لقد تأخرنا كثيراً ونحن نجادل ونمطط خوفاً من استخدام عقولنا ومنطقنا بل حتى فطرتنا، حتى باتت حياتنا كلها قائمة على مجموعة من الأفكار المتناقضة المريضة جعلت منا مادة لتندر العالم ومصدراً لسخريته.
لقد عشنا تحت ضغط قداسة كل من اتخذ من الدين صنعة، فلم نعد نميز بين الغث والسمين، لترتفع الآن الأصوات المدافعة لتقول إنه خطأ المفتين الذين يجتهدون فيخطئون ومصيبة المتطرفين الذين يمعنون فيتطرفون ليبتلى بهم الدين، ولكن كيف لنا أن نميز الغث من السمين والطيب من الخبيث والمحق من الكاذب إذا كان المبدأ الأول الذي يعتمده المتدين في أوطاننا هو عزل العقل وتقييد المنطق؟ كيف يطالب المدافعون الناس بتمييز الدين الحقيقي من ذاك الذي شوهه تجاره إذا كانوا يستحرمون استخدام ملكة التمييز والتفكير بحد ذاتها؟
إن اتباع مبدأ هم (رجال الدين) المخ ونحن العضلات التي تنفذ بلا تمييز ولا إرادة لا يهدد كياناتنا ووجودنا وكرامة حياتنا فقط، بل يهدد الدين بحد ذاته كمنظومة حياتية سيأتي الوقت وتعزلها العقول المتحجرة المسيطرة عليها. إن عقلنة المفاهيم الدينية ليست فقط حقاً ولكنها واجب على المجتمع بأكلمه، خصوصاً وهو مجتمع معتمد في معظم مناحي شؤونه على المفاهيم الدينية. شيء من الشجاعة وتقديم العقل والمنطق سينقذنا ويحسن حياتنا بشكل كبير، بدءاً برفعنا من قائمة “أكثر الشعوب هزلاً” لنحوز شيئاً من احترام العالم وجدية تعامله معنا.