يقول عمانويل كانط “إن حرية القلم هي الوقاية الوحيدة لحقوق الشعوب”، وما لا تستوعبه المجتمعات الثيوقراطية الشوفينية أن هذه الوقاية لها ثمن، فعلى هامش ما تنتجه الحرية من أدبيات وسياسيات وعلوم متطورة يتحدى بها المجتمع تقليدية الحياة، لابد من ظهور أصوات نشاز مثلومة، تسعى بقصد وأحياناً تعمل دون قصد على إحداث شروخ وجراحات في جسد هذا المجتمع. فأما الشعب الهادئ المستقر في مفاهيمه الحياتية فنراه يدير رأسه عن هذه الأصوات فلا يعطيها لا من وقته ولا من جهده الجسدي أو النفسي، وأما الشعوب المهزوزة المتشككة المعتقدة بدونيتها فتجدها تقوم ولا تقعد لكل كلمة تقال وعلى كل تعبير يصاغ معتقدة أن الدنيا كلها تتربص بها.
إن ممارسة الحرية أشبه بعملية التصفية في برنامج مثل Arabs Got Talent حيث يفتح البرنامج الباب للمواهب كافة، فيظهر منها الركيك، والصفيق، والمضحك، والمخجل وحتى المتدني المعيب، ثم تظهر تلك المواهب الخلاقة الرائعة، فتعوض كل المهازل الموهبية التي مرت وتنسي المشاهد وجعها. وفي الآخر، لا يصل إلى المراحل النهائية إلا تلك المواهب المستحقة الرفيعة، تلك يدفع بها البرنامج إلى عوالم الشهرة لتزين وجه المجتمع الإبداعي، تلك التي تبقى في الذاكرة، وكل ما عداها تطويها ضحكاتنا واستغرابنا واستهجاننا في صفحات النسيان.
وهكذا هي الشعوب “الكول” الواثقة من نفسها، لا تهزها الأصوات الركيكة النشاز، بل ولا تكلف نفسها عناء الغضب وردة الفعل، محتفظة بطاقتها للاحتفاء بمن يستحق والذي سيأتي في يوم ليمسح كل آثار الركاكة السابقة. هي شعوب تعلم أن عليها أن تدفع الثمن، وهي تتفهم أن الثمن، على ما يستشعر من آلامه الوقتية، هو قليل مقارنة بالمنافع العظيمة للحرية المنطلقة في المجتمع، فدون هذا الثمن المتدني الوقتي، لم يكن ليظهر العلماء الخلاقون، والفنانون المبدعون، والمفكرون الدافعون بالدنيا إلى الأمام المستقبلي الجميل.
الآن، سيحبس أحمد المليفي 6 أشهر جراء مقال ركيك طائفي كما حبس سابقاً حمد النقي جراء تغريدات رخيصة كلها لم يكن ليسمع به ثلاثة أرباع أهل الكويت لولا الضجة الغاضبة غير المجدية. سيكلفنا هذا الحبس كثيراً، سيرتفع الكره الطائفي عند المحبوسين وأتباع فكرهما، ستزداد الرغبة في تداول خطاب الكراهية هذا من الطرفين من باب الجهاد الديني أو، في أقل الصور عمقاً، من باب أن كل ممنوع مرغوب، والأهم من كل ذلك، ستختبئ كل الأصوات الجادة الباحثة في المسائل الدينية خوفاً من الحساسية المفرطة التي تتسبب في هياج مجتمعي يصل إلى حد العقوبة القانونية. حبس رجلين ضحلي الفكر ركيكي التعبير طائفيي الهوى سيكلفنا خسارة الكثير من ذوي العمق الفكري والجمال التعبيري والحياد البحثي الذين سيتوارون خوفاً من العقوبة وتلويث السمعة، وتفادياً لضجة مجتمعية في هياجها لا تفرق بين الغث والسمين. وفي النهاية يخسر المجتمع الفكرة الرائعة المختبئة خوفاً وينشر الفكرة الركيكة المتفاخرة تعنصراً وعناداً، فلا يطال “لا عنب الشام ولا بلح اليمن”.
ولأن الطائفية تغلغلت ولأن العنصرية تفشت، أدرك أن الديمقراطية المثالية والحريات الكاملة المطلوبة بعيدة المنال، لذا، قد تكون الغرامات المالية أو الخدمات المجتمعية خير عقوبة للرأي المسيء، مع التحفظ على المنطق بحد ذاته، فالإساءة نسبية ولا يوجد لها ميزان واضح مطلقاً، أما الحبس والطرد وسحب الجنسية، فتلك عقوبات سيكون مردودها السلبي على المجتمع بأكمله، يخيفه ويغلق أبوابه، فلا يفوز في سباقاته سوى المواهب الركيكة الباردة الواقفة عند خط الحذر، لا هي تطرب أذناً ولا تنعش شعوراً.
«آخر شي»:
يمكن لخسارة مشروع “الداو” أن تكون كتلك الضارة التي ربما هي نافعة، فهي كشفت عن نتاج الزعيق غير المدروس والاستجابة الخائفة له، وأوضحت مدى الضعف الإداري في الدولة، وبينت النتاج المريض للعلاقة المهاودة بين المجلس والحكومة ولخلط الصلاحيات والسلطات. وفداء لنا 2 مليار… زكاة عن صحتنا.