شطرنج

لا تستطيع الدول العربية أن تحقق تحرراً سياسياً حقيقياً، لأنها غير قادرة على أن تحقق تحرراً شخصياً وأيديولوجياً ومعتقدياً وحياتياً على نحو حقيقي، ولا يمكن للأولى أن تتحقق ما لم تتوفر لها كل واحدة من الحريات الأخرى، تلك التي تضمن تحرر الرأي تماماً، وبالتالي تنتج رأياً ورأياً آخر، وثالثاً وعاشراً.. لتتصارع هذه الآراء في مناخ صحي من الاختلاف الآمن ومن الإفساح للآخر، إفساح ملزم بقوة القانون وقوة المجتمع وقوة الأيديولوجيا التي تشكل هذا المجتمع وتصيغ تعامله مع أفراده.
لماذا ندور في دوائر مغلقة: مصر أخذت دورة كاملة وعادت للحكم العسكري. العراق أخذ دورة كاملة وعاد للديكتاتورية. سوريا، يا ويلنا من ذنب سوريا، لم يستدر بها الطريق بعد، منطلقة كما طلقة المسدس للأمام، متجهة بعنف نحو التفكك والخراب، إن لم تكن قد وصلتهما بعد.. وهما الآفتان اللتان تنذر بهما الحرب الأهلية الحالية. اليمن في صراعه يدور، هو ضحية صراعات أيديولوجية خارجية وجلاد نفسه بالصراعات الداخلية.. ليبيا تدور في دوائر القبلية والانغلاق، بالكاد نعرف عن حقيقتها الداخلية شيئاً. وفلسطين، وجع الغدر والتخلي مغروس في خاصرتها، تدور وتدور طائرة فوق مستوطنات الغرباء القبيحين، كأنها فكرة لا أرض، كأنها حلم لا حقيقة.
لمذا نحن هكذا؟ لماذا لا نصل أبداً؟ هل حكم الله علينا أن نبقى تائهين في الزمن، نلف ونعود كأننا كابوس يعيد نفسه كل يوم؟ ما بالنا هكذا؟ سوداننا التي اشتعلت فيها جذوة الثورة بصوت آلاء، ها هي تنطفئ بقمع وقتل وتشريد غير مسبوقين. ونحن، بقية الجيران، نقف كمن على رأسه الطير، تنتظر أنظمتنا نتيجة اللعبة حتى تجد مكانها فيها. هي لعبة شطرنج، نحن حطبها غير المأسوف عليه حتى ولو تم كسره ونسفه ونفيه من على قاعدة اللعب، نحن الثمن الذي لا بد أن يدفع، والمقابل الذي لا بد أن يقدم. يموت محمد مرسي-له مغفرة من الله-فتنصب عليه اللعنات في وقت أحوج ما يكون فيه المصريون للتكاتف والتعاضد. في خضم حروبنا السياسية ننسى إنسانيتنا، ننسى أن العدل لا يخدم المتهم فقط، وأن الرحمة لا تحفظ نفس المسيء فقط، ننسى أننا نحتاجهما قبل المتهم والمسيء، ننسى فنمعن في الأذى، فنخرب نفوسنا من الداخل ونعطب قوانا المشاعرية والعقلية والحسية.
لماذا نحن هكذا؟ لماذا ندور في دوائر مغلقة تنطوي على إيذاء شديد لأنفسنا بأنفسنا؟ نحن هكذا، في رأيي، لأننا نفتقد المقوم الأول للإنسانية الطبيعية، لأننا محرومون من هواء العقل، لأننا مفرغون من الهوية الحقيقية: نحن بلا حرية، ومن لا حرية له لا يملك أن يحافظ على جسده وعقله لا يستطيع أن يحفظ روحه. كل شيء يبدأ بالحرية، وكل شيء ينتهي إليها، فإذا ما لم تكن لدينا الحرية لنختار حيواتنا، ونختار أفكارنا، والأهم من كل ذلك، نختار معتقداتنا، فلا شيء يبدأ عندنا ولا شيء ينتهي، نحن مجمدون في جحيم أنظمتنا الاجتماعية والدينية قبل السياسية. لن نتحرر سياسياً في يوم، لأننا نخشى أن نتحرر فكرياً ومعتقداتياً، نخشى أن يكون لنا رأي، نخشى أن تجوب أرواحنا الأسئلة. لدينا أجوبة معلبة للأسئلة المعلبة، لذلك نبقى كذلك معلبين بأنظمة سياسية تستوعب تماماً سيكولوجياتنا العصابية لتأتي بأغطيتها الحديدية وتحكم إغلاق العلب، فلا نرى نوراً ولا نتنفس نسمة هواء نقي، بعضنا يجتر أكسجين بعض، ونرى «عمياني» ونصر على أننا متأكدون متيقنون.
يقول المفكر الكويتي الرائع د. فهد راشد المطيري، في تغريدة مهمة له: «لا قيمة لتبني رأي لا يتيح لنا القانون تبني نقيضه، وبذلك لا معنى للإشادة بنزاهة القضاء إذا كان التشكيك بالقضاء يؤدي بنا إلى الإحالة إلى القضاء، ولا معنى لمديح الحاكم إذا كان نقده محرماً، ولا معنى للحديث عن روعة الإيمان إذا كان الإيمان نفسه هو الخيار الوحيد». لذلك، إذا أردنا أن نتحرر من أنظمة سياسية قمعية، لا بد أن نتحرر من أنظمة أيديولوجية قمعية، إذا أردنا أن نحكم أنفسنا بأنفسنا سياسياً، فلا بد أن نحكم عقولنا بأنفسنا فكرياً، وإذا أردنا أن نحقق ثورة ناجحة فلا بد أن تبدأ من الفكرة وليس الحاكم، ولا بد أن تأخذ الثورة هذه الفكرة إلى حيث الحرية، الحرية الكاملة، حيث يمكنك أن تقول بإيمانك وأن تقول بعدم إيمانك بدون أن تفقد وظيفتك أو تتهدد حياتك أو يلفظك مجتمعك. لذلك هي وحدها تونس اليوم التي تمثل مشروع الثورة الناجحة المتجهة إلى تحقيق النتائج. ليس من قبيل المصادفة أن الدولة الشرق أوسطية الوحيدة التي ترى اليوم نسبة نجاح بعد ثورتها هي الدولة الأكثر مدنية في قوانينها والأكـــثر بعداً عن فرض رؤية أيديولوجية وعقائدية على مواطنيها.
حتى يكون للعقيدة قيمة حقيقية في نفس الإنسان، يجب أن يتوافر اختيار اختفائها من نفوس الآخرين، وحتى يكون للعقيدة عمق حقيقي يجب أن تأتي باختيار حر، وحتى يتحقق الاختيار الحر لا بد أن يتوفر النقيضان على اتساع الهوة بينهما، وحين تتحقق الحرية بهذا الاتساع وهذه الرحابة وتلك الأريحية، فقط عندها ستبدأ ثوراتنا السياسية في خطواتها الأولى. أوروبا تحررت من قمع أنظمتها حين تحررت من قمع قساوستها، متى يكتبها الله لنا؟