«شخبوطة»

قبل فترة تم تنفيذ أحكام إعدام في سبعة أشخاص في الكويت، هكذا بالجملة، لم تحاول الدولة حتى توزيعهم على كم سنة درءاً لبشاعة الموقف، جمعتهم كلهم في باقة موت ونفذت فيهم في التوقيت نفسه. والناس، آه من قسوة ووحشية الناس التي تتجلى في ردود أفعالهم المرعبة، تسودهم حالة من التشفي الغريب، وعندما تحدثهم عن الإنسانية، عن وحشية العقوبة، عن الضرر النفسي والسلوكي الذي تخلفه هذه العقوبة خلفها في الأحياء، يضغط هؤلاء الناس على أعمق نقاط ضعفك، وكأنهم لكي يدفعوا بجدليتهم لا يتورعون عن نبش أعمق المخاوف وأفظع الخيالات وأبشع التصورات: ماذا لو كانت الضحية ابنك؟ عندما يقتلون ابنتك بعدها تكلّمي، ثم يتمادون بما هو أشد وأنكى من التعابير المؤزمة التي لا تناقش الموضوع بالعقل والمنطق بل من باب استثارة المخاوف والآلام، من باب الدخول للمعترض على عقوبة الإعدام من أظلم مساحة في عقله حتى يُقسروه تخويفاً وترهيباً على القبول بمبدأ هذه العقوبة البشعة. كيف تسأل الضحية المعجونة بألمها ومرار فقدها عن رأيها في عقوبة يفترض أن تكون إصلاحية وعادلة بل رحيمة، وهل تمتلك الضحية (ذاتها أو أحبتها) القدرة على الحكم المنطقي الإصلاحي العادل، دع عنك الرحيم، على من سامها العذاب؟ هنا يأتي دور المجتمع الصحي الإنساني، المجتمع المتمكن من رؤية الصورة بشكل أوضح، غير مغممة بألم الفقد وعذاب الذكريات، هنا يأتي دور القوانين والمحاكم التي تعزل المشاعر وتحيد الغضب والحزن والأذى وتحكم بالعدل والمنطق ومن خلال نظرة إصلاحية، أو هذا ما نتمناه أن يكون. إن أبشع الجرائم يجب ألا تعالج بأبشع العقوبات فالبشاعة تخلف بشاعة، والهمجية تورد الهمجية، ومن هنا تأتي الحاجة الحقيقية لنظرة إنسانية إصلاحية في معالجة الجرائم البشرية، حتى لا تجر الدماء الدماء، وحتى لا يعالج الأذى بأذى.

وقبل فترة تم تنفيذ أحكام إعدام في عدد آخر من الناس في الكويت، لم تتدلَّ أجسادهم من الحبال الغليظة، ولكن تدلى مستقبلهم في هوة سحيقة، قذف أبناؤهم وأهاليهم في خندق مظلم لا مخرج له، ضاع الماضي، ضاع الحاضر، واختفى معنى الهوية، وتبخر الانتماء، في لحظة تبخر الانتماء وأصبح هؤلاء بدون، بدون انتماء، بدون وثيقة، بدون وطن. تحيا حياتك كلها تردد النشيد، تحيي العلم في الطابور المدرسي، تتكلم وتتصرف وتنام وتصحو، تسافر وترجع بهذه اللهجة، بتلك الروح، من هذا المنطلق الجغرافي والنفسي والاجتماعي، ثم فجأة، لأن والدك قال كلمة، لأن عمك تطاول بنقد، يختفي انتماؤك، أنت لست أنت، موقعك الجغرافي ليس موقعك، أهلك وناسك وتاريخك وحياتك، ذكرياتك ومستقبلك، الشوارع التي تمشي عليها، الجمعية التي تتبضع منها، السوق الذي ترتاده، السينما، المستوصف، بطاقتك، جوازك، الصف الذي تقف فيه في المطار، كل شيء يختفي فجأة، فأنت بدون الآن، أنت مجرد “شخبوطة” رصاص يستطيعون مسحك في أي لحظة، أنت الآن لم تعد أنت، وسلالتك كلها مجرورة خلفك في هذا الغياب، في هذا الضياع، أنت الصورة الأكثر بشاعة من صورة ذاك المتدلي من الحبل، فعقوبتك هي الوحيدة التي تتجاوز في بشاعتها عقوبة القتل. الآن أنت رقم آخر، مجرد رقم في قائمة ما في جهاز ما تحت نظر لجنة ما، سيشبعونك فحصاً ودراسة وإحصاء، سيرقمونك ويلونونك ويبعدونك ويدنونك، سيلعبون بحياتك، ومن منا حياته ليست لعبة لديهم؟

ولكن لحظة، عقوبتك ليست هي الوحيدة الأبشع من عقوبة القتل، هناك من ولدوا أرقاماً، لم يكونوا انتماء، لم يكونوا هوية، لم يكونوا ورقة في يوم، هؤلاء يغلبون الجميع في الأسى الإنساني، يولدون معاقبين بالعقوبة الأبشع قبل حتى أن يرتكبوا ذنباً، يمرون في حياة مليئة باللئام مرور كرام، ثم يغادرون صابرين صامتين. هل لك أن تتخيل أن تولد وتموت دون أن تتثبت منك الحياة، دون ورقة، دون هوية، دون جواز، دون بيت تسميه بيتك، دون بقعة جغرافية تشير لها على أنها ملكك؟ هذه العقوبة هي الفائزة بجائزة الأبشع بين العقوبات، فهي مسبقة للذنب، وهي أبدية، كأنها جهنم، لا تقول إلا هل من مزيد. الحقيقة يصعب الحكم بين هذه البشاعات، في النهاية كلها إعدامات، وكلنا في الموت… “شخبوطة”.