شتات

حدثتني تلك الشابة اليافعة تأخذ رأيي في معضلة مبدئية تواجهها. تقول الشابة إنه بعد زواج عاصف، حصلت هي علــى الطلاق من زوجـــها بعد معـــاناة وإذلال، وبعد أن خسرت أموالاً كثيرة إبان مراحل التعاسة تلك، بما قد جاءها على سبيل الحقوق كالمهر وعلى سبيل الهدايا كالشبكة، كان قد تحصّل هو عليها بطرق ملتوية تاركاً إياها بلا أي ضمانات مادية، خصوصاً أنها منقطعة عن أهلها لأسباب كثيرة، أحدها زواجها منه.
هذه السيدة الصغيرة تبدو الآن كورقة متيبسة في مهب الريح، تعيش ظروفاً قاسية ووحدة شديدة، والأدهى والأمرّ أنها تعيش معاناة مادية كبيرة، ما دفعها للتفكير في المطالبة بنفقة كحل مؤقت لعوزها المادي. سألتني، هل ستكون مطالبتي بالنفقة تهديداً لاستقلالي كامرأة؟ هل محاولتي الحصول على هذا المبلغ المادي ستحيلني منافقة أمام مبادئي ومثُلي الخاصة بالمساواة والاستقلالية؟
راعني سؤالها، راعتني أنظمتنا القانونية الشرعية التي تضع النساء أمام معضلات، ليست معيشية واجتماعية واقتصادية فحسب، بل نفسية ومبدئية تجعل الحياة الحقيقية غير النفاقية عصية على التحقق. أخبرتها أن حياتنا الشرق أوسطية كلها مبنية، اجتماعياً واقتصادياً وأحياناً قانونياً، خصوصاً في مجال الأحوال الشخصية، على ما يخالف مبادئ المساواة والحقوق الإنسانية. وعليه فإن محاولتها الالتزام بمبدئها الاستقلالي النبيل في بحر من المبادئ التمييزية، والتي ستحتاج هي إلى أن تحاربها في كل خطوة من خطواتها، لربما هو ضرب من المستحيل.
أخبرتها أننا بحاجة إلى تغيير المنظومة بأكلمها قبل أن نغير التنفيذ الفردي للأشخاص الخاضعين لها، أخبرتها بأنها ملامة عندما تكون حاصلة قانونياً واجتماعياً على حقوقها الكاملة ولكنها تأبى الالتزام بمبادئ الاستقلالية والمساواة، أما وهي مقيدة الأيدي والأرجل، فكيف يمكن قياس التزامها وكيف يمكن الحكم عليها من خلال معيار هذا الالتزام؟
ارفعي قضية نفقة، قلت لها، هي حقك في منظومة تضعك تحت رحمة رجل، هي إنقاذك وأنت في عالم يعتبرك إنساناً درجة ثانية، حكمك ليس بيدك، وقرارات حياتك ليست خالصة لك. غريبة هي منظومة الزواج بالنظر إليها عقـــــلانياً؛ اثنان يدخـــلان بالتراضي في هذا العقد، إلا أن واحداً فقط هو القادر على فسخه كيفما شاء ومتى شاء، وهو قادر على الإبقاء عليه رغم أنف الطرف الآخر ورغماً عن إرادته، وحتى وإن ارتأى فسخ العقد فله أن يعيد تفعيله بلا علم الطرف الآخر أو حتى موافقته.
كيف أطلب من الصغيرة أن تكون مبدئية وهي محكومة بعقد مثل هذا؟ كيف أدفع بها لأن تحافظ على مبادئ الاستقلالية والمساواة وهي، وكلنا كنساء، داخل منظومات لا تحفظ لنا استقلالية أو حرية لا نفسية ولا حتى جسدية، فيما هي تعطي للرجل كل الحقوق الاستقلالية والجسدية ثم التحررية من هذا العقد الغريب؟ ارفعي القضية وتحصلي على بعض المال الذي يعينك في هذه الفترة الشائكة، قلت لها، نحن في مرحلة «تدفيش»، نحاول، دفعاً بأيادينا وأقدامنا أن نجعل الحياة كريمة وذات كرامة بقدر الإمكان وبالمتوفر حالياً، إلى أن يأتي الله أمراً كان مفعولاً.
ليتني استطعت نصحها بغير ذلك، ليتني سحبتها وبقية الصغيرات والكبيرات، فخرجنا في ثورة تزلزل أركان الشرق الأوسط الركيك أصلاً، ليغير قبل أي شيء ما هو أهم من كل شيء، قوانين الأحوال الشخصية التي تأسر المرأة وتملكها وتنتقص منها كمواطن كامل الأهلية. نعم، هذه القضية تجبّ ما قبلها وما بعدها، نعم هي الأهم والأخطر على الساحة الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والسياسية اليوم. لن نخشى أن نقول إن قضايا المرأة التي طالما تم تهميشها وتصغيرها، طالما تم تأجيلها وتسويفها بحجة أننا أمام قضايا ومعضلات أهم وأخطر. لن نخشى أن نقول إنها القضايا الأهم والأخطر والأكثر إلحاحاً، وأنها المستوجبة للحل والتعديل والإصلاح الفوريين تحقيقاً للمساواة والعدالة، وهذان هما المبدآن اللذان لا تتشدق بهما منطقة كمنطقة الشرق الأوسط، ولا تجتاحهما وتنتقصهما بقعة جغرافية كبقعته. واجب المفكرين والعلماء والشرفاء والحقوقيين والإنسانيين أجمعين في منطقتنا هذه والعالم أجمع أن ينقذوا هذه السيدة الصغيرة من معضلتها المبدئية والفكرية تلك، من عوزها الذي خلقه نظامهم التمييزي، من آلام تمزقها النفسي، حيث قلبها شتات بين إيمانيات وحاجات.. بين مبادئ ومطالب.. بين مُثُل مهمة في حياتها وإيجار بيت وتكاليف معيشة هي ملزمة بها. ليس عدلاً أن تحيا الصغيرات (أو الكبيرات) أسيرات، أسيرات أنظمة مجتمعية تمييزية تغتال أبسط حقوقهن في المساواة والاستقلالية كإنسانات ومواطنات، أسيرات ضمائر مكلومة وقلوب مثقلة غير قادرة على أن تحيا طبقاً لإيمانياتها ومبادئها. طوبى لك تونس.