مع كل نهاية فصل دراسي تتكرر القصة، وهي في حد ذاتها ليست مهمة ولكنها معتادة، والخطورة تكمن تحديداً في اعتياديتها وتكرارها، ما إن ينتهي الفصل الدراسي حتى تبدأ مرحلة مضنية من “المكاسر” حول الدرجات، شد وجذب متواصلان هما أبعد ما يكون عن كونهما أكاديميين أو تعليميين، هما في الواقع أقرب للمساومات التجارية منهما للحوارات التعليمية. طبعاً كلنا مررنا بمرحلة متشابهة، نتكاسل خلال الفصل الدراسي أو تمر علينا ظروف حقيقية معيقة أو يكون نصيبنا مع معلم مستبد، فنجد أنفسنا مضطرين للتواصل في النهاية في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، إلا أن ما يحدث الآن يختلف في جوهره مما يجعله ظاهرة تستحق المراقبة، خصوصاً أن الفعل ذاته غير مقتصر على المؤسسات التعليمية فقط، إنما هو ضارب للعمق في جذور قواعدنا الاجتماعية الأخلاقية.
وهنا تتجلى المشكلة تحديداً في رافدين: أولهما يتبدى في طبيعية واعتيادية هذا الفعل الذي يتكرر بشكل منتظم وممنهج، فقد أصبح التوسط من أجل الحصول على درجة غير مستحقة، كما هو التوسط عموماً في البلد، فعلا طبيعيا ومعتادا تماماً بل متوقعا جداً، فلا غضاضة ولا غرابة في أن يتجه الطالب، وأحياناً كثيرة ولي أمره، على الرغم من تعاليم الجامعة الصارمة لمنع مجرد الحديث مع غير شخص الطالب فيما يخص درجته، إلى المدرس طلباً لتغيير هذه الدرجة، وهو تغيير ليس مطلوباً بناءً على أسس أكاديمية أو تناظراً حول الإجابات أو طرق التصحيح، بل هو تغيير مبني على فكرة أن كل شيء يمكن تحقيقه في هذا البلد بالوساطة الصحيحة، أو بتقبيل الأنوف وشرح الظروف، الظروف التي غالباً ما ليس لها أي علاقة بالعالم الأكاديمي الذي نتعامل من خلاله. لقد خُبزت فطيرة الكسل هذه معجونة بخميرة الواسطة منذ زمن بعيد، أتخمتنا حتى ما عدنا نتخيل أن نتم أي عمل دونها، أن نحصل على أي حق بلا خميرتها، فقدنا تماماً إيماننا في عدالة المؤسسة بعد أن حول الساسة هذا البلد إلى مجتمع قبلي معقد متشابك العلاقات، تصل فيه إلى ما تريد فقط إذا سلكت الخط الصحيح من العلاقات المطلوبة.
أما ثاني رافدي المشكلة فيتجلى في أريحية الفاعلين من طلبة ومعلمين، كلنا دخلنا دائرة هذا النظام المريض واعتدناها تماماً، فما عادت رؤوسنا تدور بسبب دورانها العصابي، ما عدنا نشهق شهقة غضب واستنكار عندما نسمع بالموقف أو حتى نتعرض له، وأفضل من فينا يرفض المشاركة والاستجابة ليعدّ بعدها من المارقين عن النظام الاجتماعي المقبول، فالطالب الذي يريد تحقيق هدفه بالمثابرة “متعب نفسه” وخائب، لا يعرف كيف يصل، والأستاذ الذي يريد تحقيق العدل معقد متكبر، و”مزودها حبتين”. هذه الطبيعية وهذه الأريحية في استقبال واستخدام الوساطة تتبديان وتتألقان عادة في جمل دفاعية تسمعها مع كل نهاية فصل أن “الدكتور الفلاني غير درجتي دون عناء”، و”الدكتور العلاني نقلني من الرسوب إلى النجاح جزاه الله ألف خير”، جمل تساق بفخر وكأن ما يذكر هو عمل خيري وليس تزويرا، هو طيبة ورحمة وليس تفرقة وظلماً وغبنا للمجتهد من الطلبة. كيف ومتى تغلغل الفساد الفكري؟ ولأي عمق وصل أن انتشر فعل كهذا وأصبح طبيعياً ثم أصبح ممتدحاً بل يستشهد عليه بمن يجب أن يكونوا هم أول مصدّ له؟ كيف سمح من يجب أن يكون مؤتمناً على النزاهة الأكاديمية في أصغر تفاصيلها أن تُخترق هذه النزاهة وتتخلخل أطرافها، فهدم هذا القسم المقدس العظيم الذي يسكن كلا منا ما أن نقف في مواجهة طلبتنا في صفوف الدرس؟ المعلم الذي يستجيب لوساطة لم يظلم فقط، بل هو وضع حجراً آخر في سور الفساد العتيد عندنا، سدّ فوهة العدل التي تُدخل الهواء وأشعة الشمس، وضع خيط فساد آخر بجانب الخيوط المعقدة المتشابكة التي تشكل مجتمعنا.
النزيه موجود دائماً، وهو يشكل الأغلبية على ما أرجو وأتمنى، إلا أن انتشار الظاهرة واستفحالها أصبحا يهددان هذه الأغلبية. لقد أصبح هذا الحل التلقائي الطبيعي للوساطة، الذي يتبدى لنا دوماً في معالجة أي مشكلة، هو في عمقه المشكلة، فلم نعد نحتكم للجهات المعنية، لا نراجع أنفسنا، لا نحاول الحصول على حقنا باستحقاقنا له، نتجه للطريق الأقصر ونصعد على الرصيف الأقل ارتفاعاً، فهكذا تعلمنا، وهذا ما كان عليه آباؤنا، وهذا ما سيوردنا المهالك إن لم يتغير سريعاً.
«آخر شي»:
كلمتي للآباء والأمهات الأحبة وأنا إحداهن، لا تخدعوا أولادكم بانصاف الدنيا وسهولتها، اليوم نحن موجودون نساندهم، غداً سيكونون وحدهم على الطريق. لابد لهم أن يتذوقوا صعوبة الحياة ويتعلموا أن يعملوا بأنفسهم من أجل تحقيق غاياتهم. بلا هذه المهارة نحن نرميهم حملان وديعة في غابة كبيرة مخيفة. لا تناولوهم السمكة، دعوهم يصطادوها، طعمها سيكون ألذ وفائدتها أعم، ومع نهاية السنة، كل عام والجميع بخير.