نعمل في الكويت ومنذ أسابيع على حملة لتجنيس أبناء الكويتية المتزوجة من غير كويتي، دَعَمتها عريضة أطلقها شخص منذ أيام لا نعرفه في الحقيقة إلا أنه حرك أجواءً كانت مشحونة مسبقا ودفع بالحراك إلى مرحلة متقدمة. وامتدت الحملة بصوتها لتشمل الكثير من الدول الخليجية والعربية حولنا، حيث أخذت بعض النساء بالتواصل حول معاناتهن مع “تغريب” أبنائهن في دولهن، وصدحن معنا بالمطالبة بحقوق المواطنة المدنية الكاملة.
بقي في العالم خمسة وعشرون دولة والتي لا تزال تتعارض قوانين تجنيسها مع مفاهيم المواطنة المدنية ومفاهيم حقوق المرأة التي هي حقوق إنسانية أصيلة. هذه الخمسة وعشرون دولة، طبقا لتقرير UNHCR الصادر سنة 2019 تتراوح فيما بينها في درجة تعاطيها مع هذا الموضوع، فمثلا إيران، دار السلام، لبنان، إسواتيني (تعرف سابقا بـ “سوازيلاند”)، الصومال، الكويت وقطر كلها تمنع تجنيس أبناء الأم مع وجود استثناءات بسيطة، حيث أن قوانين هذه الدول “تخلق خطورة أكبر لانعدام الجنسية” كما يقول التقرير.
هناك دول استثناءاتها أفضل وعددها سبعة عشر منها البحرين، العراق، الأردن، ليبيا، النيبال، الإمارات وغيرها، هذه الدول تحمي استثناءاتها أحيانا من وقوع انعدام للجنسية وذلك مثلا عن طريق تجنيس أبناء المواطنة المتزوجة من عديم جنسية أو إذا كان الأب مجهول الهوية.
تبقى دولة موريتانيا وهي ذات قوانين أفضل من بقية الأربعة وعشرون دولة المشار إليها من حيث أن قوانينها أقوى في الحماية من انعدام الجنسية. هذه المعلومات هي طبقاً للتقرير الأخير لمنظمة UNHCR والتي لربما تغير بعضها خلال السنة الماضية.
إن قضية تجنيس المرأة تحمل في طياتها كل متناقضاتنا وعنصريتنا وأصولية ورجعية أفكارنا. ففي الزمن الذي غيرت فيه المدنية فكرة الانتماء والامتداد، لا نزال نحن نعتمد نقاء الدم عامل نحدد على أساسه انتماء الإنسان وقيمته بل وصلاحيته للتناسب والتخالط الاجتماعيين.
تنحو دول العالم المتقدمة اليوم إلى ضم القوى البشرية، التي هي أهم قوة وأقيم المصادر “الطبيعية” في العالم، إليها وذلك انتقاءً للأصلح منهجيا والأكثر قدرة على الاندماج والتواصل وخدمة المجتمع الذي ينتمي اليه. كذلك، فإن الإقامة على أرض ما وما يتبعها من تخالط مع المجتمع واستخدام لخدماته والمساهمة في اقتصاده من أكبر صور هذه المساهمة إلى أصغرها، مثل مثلا شراء شيء من السوق أو حتى دفع قيمة استخراج ورقة أو اتمام معاملة، هذه كلها تؤهل الإنسان للانضمام للمجتمع حيث ينظر له على أنه potential أو قدرة كامنة لا بد من استثمارها وتأهيلها لتندمج أكثر وتصبح فعالة ومنتجة.
إلا أن التفكير الأبوي الذكوري، الذي لا يزال يسيطر على بعض الدول، يحرمها فعليا من هذه الثروة البشرية الأهم والأغلى في الحياة. في هذه الدول، يمكن لأبناء الرجل الذين قد يعيشون في الخارج طوال حيواتهم مع أمهاتهم على سبيل المثال فلا يعرفون شيئا عن الوطن وأهله وطبائعه واحتياجاته، لم يدرسوا في مدارسه ولم يساهموا في اقتصاده، يمكن لهؤلاء أن يتحصلوا على الجنسية لحظة ولادتهم دون قيد أو شرط بحكم امتدادهم الذكوري، ويبقى أبناء المواطنة المرأة الذين قد يولدون على أرض وطنها ويعيشون فيه ويستثمرون في اقتصاده ويخدمونه بل وفي بعض الحالات مثل الكويت، تصرف الدولة بحد ذاتها عليهم الكثير من أموالها، بلا جنسية الأرض التي يعيشون عليها، يبقون غرباء على أرض والدتهم، لا ينتمون إليها، ليسوا من مواطنيها. أي إهدار هو ذلك لثروة كامنة وتعطيب لقلوب ونفوس بتغريبها وعزلها؟
في هذه الدول الذكور فقط هم من يصنعون المواطنين لا الإناث، وأي إهانة هي للمواطنة ألا تتمكن من إضافة مواطنين لبلدها؟ أي إهدار هو لقوى بشرية موالية، بل على الأغلب قد يكونون أكثر ولاءً من غيرهم بحكم أن الأبناء، في الأغلب، يميلون دوما لطرف الأم من حيث مجتمعها، لغتها، دينها، أسرتها وموطنها، لتترك هذه القوى بلا استثمار ولا احتواء؟
الجنسية أمر مدني لا ديني، كل البناء الحالي للتركيبات المدنية من دول ومؤسسات وقوانين وتنظيمات، كلها في الواقع مستحدثة قريبا ولا علاقة لها بالأديان أو التشريعات الثيولوجية لا من قريب أو بعيد. الجنسية مفهوم مدني لا ديني، ويفترض أن يطبق على أسس مدنية لا على أسس عرقية أو دينية.
هذا غير أن الآراء الدينية في هذا الموضوع أصبحت حقيقة تدفع بتجنيس أبناء المرأة، رغم عدم وجود مفهوم الجنسية في الفقه الإسلامي، لما لذلك من أثر كبير على الأسرة، رأي الدكتور محمد الطبطبائي عميد كلية الشريعة سابقا في الكويت أكبر مثال على ذلك.
إن النظر لمفهوم التجنيس على أنه مبني على البعدين الزمني والعرقي فقط هو نظر قاصر رجعي، يحرم الناس حقوقهم، بما في ذلك عديمي الجنسية مثلا والأجانب المستحقين للتجنيس وغيرهم من الفئات الواقعة في فراغات قوانين الجنسية المختلفة للدول المعنية، هو منظور يخلق معاناة نفسية واجتماعية واقتصادية ضخمة، يفرض أنماط حياتية صعبة، والأوقع أنه يضر الدول المعنية بحد ذاتها ويحرمها طاقات وعقول يمكن أن تضيف لها وتدفع بها للأمام.
أعرف أبناء مواطنات كويتيات يعيشون حالة صراع نفسي مستمر، حيث يستوجب على الأم أن تجدد إقاماتهم وضماناتهم الصحية كل خمس سنوات على أقصى تقدير. وفي حين أنهم ينالون بعض المميزات التي للمواطنين، مثل التعليم والخدمات الصحية، إلا أنهم لا يزالون غرباء، يحتاجون إقامة في موطن والدتهم، إجراءات مطولة لاستخراج أوراقهم مثل إجازة القيادة، محرومون من العمل في البعثات الخارجية، من الانضمام للمنتخبات الوطنية الرياضية، من فرص العمل الحقيقية المساوية لفرص المواطنين، يعايرون بغربتهم بين أقرانهم وأصدقائهم، فلا هم أجانب فعلا ولا هم مواطنين حقا، هم تلك الطاقة المهدرة المدفونة في ثغرات لا يجب أن تكون في الدولة المدنية الحديثة.
ولأننا مجتمعات “نتبع ما وجدنا عليه آباءنا” (سورة لقمان، الآية 21) يتعلق هذا السؤال البسيط على حبال الخوف والعيب والحرام والعادات والتقاليد و”الصح” الذي لم نعاينه أو نحلله أو نفكر فيه في يوم، أن: لماذا؟ وإذا ما تجرأ أحدنا وصرخ بالسؤال ذات يوم يأتيه الجواب، كما أتاني قبل أيام في مناظرة حول الموضوع، هو للمحافظة على الهوية الوطنية وأمن وسلامة الوطن ونقاء نسيجه، وكأن أبناء المرأة لا يستطيعون حمل الهوية الوطنية، كأنهم تهديد لأمن الوطن وتلويث لنسيجه.
هذه المرأة التي لقرون طويلة كانت وحدها المنوطة بالتربية والتشكيل النفسي والروحي للصغار، اليوم تتهم بأنها غير قادرة على تشكيل هوية أبنائها الوطنية النفسية، ليس لخلل في قدراتها ولا لقصور في ولائها ولا لعيب في تربيتها، بكل بساطة لأنها امرأة، فيما الرجل يمكن أن يكون فاسدا وخائنا لا ولاء له ولا مساهمة تنتج عنه، لكنه قادر، بحكم ذكوريته من ترسيخ الانتماء في نفوس الأبناء، فقط لأنه ذكر، أي منطق هو هذا؟
فكما لا يزال بعض البشر يصر على ألا يزوج ابنته سوى من ذي “دم أصيل” وهو المفهوم الذي لا معنى له لا علمي ولا تاريخي ولا واقعي، لا تزال بعض الدول تصر على ألا تضم سوى ذوي “الدم الأصيل” ولو كان به من العِبر المدنية ما كان، لا زالت هذه الدول تقيم الأصالة على أساء انتماء عرقي لا معنى ولا قيمة حقيقية له، متجاهلة الأصالة المواطنية الحقيقية بكل معانيها المعاصرة المثبتة الواقعية والتي أثبتت مرارا وتكرارا عظم عائدها على الدولة المدنية الحديثة.
ويبقى السؤال.. كيف تقنع مجتمعات، تعتقد أغلبية مهمة من أفرادها جذريا بذواتهم “النقية” التي تسبقهم قبل ولاداتهم والتي تحققت بضربة حظ جينية لا علاقة لهم بها ولا فضل لهم في صنعها، بأن المواطنة ليست إرثا عائليا بل فكرة مدنية حديثة تتعارض أصلا وتماما مع كل معتقدات موروثات الدماء؟ كيف تفسر لهؤلاء أن فكرة “نقاء دمائهم” هي أكبر كذبة كذبها البشر على أنفسهم وصدقوها؟