نعم، لم يبق سوى الإقرار بأن هناك، فعلاً، اختراقا إيرانيا في المنطقة، وبدعوة كريمة منا، ولم يبق سوى أن نحرق البخور ونهيل القهوة في انتظار حلول الضيوف، وكيف لا ومجرد تصريح من الحكومة الإيرانية يقلبنا على بعضنا ويجعلنا نتراشق الاتهامات؟ الحكومة الإيرانية لا تحتاج اليوم إلى جيوش وأسلحة أو حتى إلى اختراق مخابراتي لدولنا الخليجية، يكفيها تصريح صغير مثل استنكارها لعنف الحكومة البحرينية مع المتظاهرين لكي نرفع نحن الأسلحة ونعتمر العمائم، شيء شيعي وشيء سني، ونبدأ حوار القباقب.
تصرح إيران «بتعاطفها» مع متظاهري البحرين الذين هم في معظمهم شيعة، فنتهمهم نحن بالانقلاب على بلدهم، ونذهب غوصاً في أعماق التاريخ لنقبض على أعناق المواقف، نعريها ثم نشرعها في وجوه بعضنا، وهات يا «ردح»… نفعل نحن ذلك فيما يقف متظاهرو البحرين، أغلبية شيعية وأقلية سنية، رجالاً ونساءً وأطفالاً، ينشدون ليس أكثر من فرصة المواطنة الحقيقية والحياة الكريمة.
إن من يتهم أهل البحرين بالتحرك الطائفي المسيس إنما يخبر عن طائفيته الذاتية الساذجة، فالتحرك المدسوس من دولة في داخل دولة أخرى لقلب نظام حكمها لا يتم إلا عن طريق مخابراتي من جماعة مدسوسة أو سياسة منظمة، وليس عن طريق تظاهرة شعبية تنزل برمتها إلى الشارع وتتمثل في الصغار والكبار، وفي الرجال والنساء.
فمثلاً، هناك منطقية للقول برغبة «حزب الله» اللبناني، ككينونة سياسية داخل الدولة، إقامة دولة شيعية متحالفة وإيران في لبنان، فالتحرك السياسي والتعاون اللوجستي واضح للعيان، أما توجيه مثل هذا الاتهام إلى أغلبية شعبية بصغارها وكبارها فهذا تغييب وتغييم… هذا الاتهام يذكرني بحديث القذافي الذي يتهم شعبه بالتحرك مع «القاعدة»، التي هدد هو نفسه بالانضمام إليها لاحقاً، وكأن الشعب كله مخابرات، وكأن الشعب كله مجند من «القاعدة»، وكأن الشعب كله مدسوس على القذافي… هو الأساس والشعب دسيسة، فهل هذه هي الطريقة التي نقرأ بها ثورة شعب البحرين؟ بالتأكيد نريد استقرار نظام الحكم في البحرين بملكية دستورية ديمقراطية، ولكن للوصول إلى هذه الغاية الجميلة، لابد أن نمر تقريعاً على الحكومة والنظام، ونقول لهما فرقتما وتعنصرتما، واليوم الشعب العاشق لبلده يدفع الثمن، فلا يمكن لبحريني عاقل، مهما بلغت درجة تشيعه، أن يتمنى استبدال حياته البحرينية مهما اشتدت قسوتها بالحياة الإيرانية تحت نظام الملالي، ما من عاقل يتفرج على المشهد الإيراني من الخارج ويتمناه لنفسه، إنما المطلب الشعبي البحريني واضح وعادل: حياة ديمقراطية كريمة يتساوى فيها المواطنون في الفرص والحظوظ، وخبزة نظيفة وعمل شريف ومشاركة حقيقية في بلد يحترم كيان مواطنيه.
ومخاطبة مباشرة لبعض المخاوف الحالية تستدعي الإشارة إلى أنه قد يكون لبعض المتظاهرين منحى عقائدي، سواء في تصرف أو مظهر يدل على مذهبه، وبينما تبقى أمنيتي الشخصية مترسخة في أن تتسامى كل المظاهرات الحالية فوق الانتماءات الدينية المختلفة لتشمل أكبر شريحة ممكنة، وأن تكون الثورات مدنية بل ليبرالية خالصة، إلا أنني أتفهم «التبتل الديني» للمتظاهرين المقموعين، فعندما يشتد قيظ الحياة على الإنسان وحين تدفع به ظروفه لمواجهة الموت، هذا ما ينتحيه عادة، يتبتل إلى خالقه، كل بطريقته، راجياً إياه الرحمة التي منعه إياها البشر والعون الذي افتقده من أقرب المقربين إليه. تلك المناحي الدينية إنما نتجت أولاً عن الطبيعة البشرية التي تلجأ إلى الخالق في المحن، وثانياً عن فقدان الثقة بمؤسسة الدولة مما يجبر الإنسان على اللجوء للمؤسسة الدينية راجيا إنصافاً إلهياً انعدم على الأرض.
لقد تبشعت الصورة كثيراً حتى أصبحت الوقفة الإنسانية مع جار يلهث تحت أزيز الرصاص طائفية، بل حتى بات التعبد بمذهب معين تهمة، فسلت السكاكين، و»فتلت عضلات» النواب عندنا كما يقول الرائع الأستاذ حسن العيسى في مقال الثلاثاء 22 مارس، فنزلوا الحلبة و»هات يا ضرب». اليوم، حتى لا يراك الغير طائفياً وحتى لا يطعنك نواب أمتك في وطنيتك يجب أن تسكت عن المجزرة، ولكن إن سكت فكيف سترى نفسك وما معنى وطنيك «المطلوبة» يوم تفقد إنسانيتك؟
«آخر شي»: أخبار ملوعة عن تعذيب وتنكيل بإخواننا المعتقلين البدون إبان المظاهرات الأخيرة… المروع في الموضوع، أن هذه الممارسات تستمر بالرغم من الكشف عنها والاستنكار العام والشامل الذي قوبلت به شعبياً وإعلامياً. وبعدين؟ من الذي سيوقف قوات الأمن عن البطش بالشعب؟