سجادة

جيمي كيمل، مقدم البرامج الأمريكي، المذيع، الكاتب، المنتج، يقدم حاليا أحد أهم برامج المقابلات الكوميدية الساخرة على قناة ABC الأمريكية التي تعرض خلالـ أفضل ساعات التلفزة المتأخرة ليلا. ينوع كيمل «إسكتشاته» الكوميدية بين مقابلات في الشارع إلى لقاءات الإستوديو إلى مواقف مضحكة يخلقها هو، لربما من أشهرها جميعا هي فقرة «قراءة التغريدات» التي خلالها يأتي كيمل بضيف أو مجموعة من الضيوف المشاهير ويطلب منهم قراءة أفظع التغريدات وأكثرها كوميدية وقسوة مما يكتب عنهم على تويتر. من بين ضيوفه هناك ممثلو وممثلات الصف الأول في هوليوود، أهم لاعبي الكرة، أهم المغنّين والموسيقيين، أهم الساسة وغيرهم من مشاهير الساحة العامة الأمريكية. إلا أن المثير للإعجاب والانبهار لمشاهدة مثلي قادمة من شرق أوسط حرية الرأي فيه فضيحة والتعبير عنه كارثة محققة، هو ظهور الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، إبان فترة رئاسته، لقراءة تغريدات ساخرة ناهرة فائقة النقد عن نفسه متبوعة بإستكتش صغير مع جيمي كيمل ذاته يسخر خلاله الرئيس من ملبسه، تحديدا بنطلونه الجينز الذي طالما كان مصدر سخرية الشعب الأمريكي وقفشاته.
ولأن الشعب على دين حاكمه، كان من المهم لأوباما، بما أنه على حد قوله مؤمن تماما بحرية الرأي والتعبير، أن يظهر ممارسا لطقوس الحرية معبرا لأقصى درجة عن جمالها مؤكدا من خلال ظهوره وتعبيره على قداستها التي لا تفوقها قداسة، جامعًا قوله بفعل يؤكد لشعبه أن الموضوع ليس كليشيهات وإنما ممارسة حياتيه فعليه يطبقها الرئيس على نفسه قبل غيره. لست هنا بصدد مناقشة السياسة الأمريكية الداخلية، وإنما أقصد إعطاء مثال حول أهمية أن «تكون ما تدعو اليه» خصوصا ما إذا كنت حاكم تحمل الدف الذي على إيقاعه يتحرك بقية الشعب. ومن المنطلق نفسه نرى العنصرية المتزايدة هذه الأيام وعودة مفهوم «سيادة البيض» في المجتمع الأمريكي على سبيل المثال، حيث دق الرئيس الحالي ترامب إيقاعها المخجل الفاحش، فرقص معه الكثير من أبناء الشعب. هي طبيعة المجتمعات البشرية، لا تتوانى أن ترقص على طبول حكامها وقادتها.
ونعود للتساؤل حول مفهوم الحرية، ما فائدة أن يقدسها أوباما لحد أن يظهر ساخرا من نفسه قارئا تعليقات جارحة حول أدائه فقط لتعزيزها؟ يصعب تلقي هذه القيمة على أفراد شعوب من أمثال شعوبنا، غارقة في فساد وضباب سياسيين، مكتومة بأيديولوجيات دينية لا منفذ لشعاع شمس يخترق حوائطها الفولاذية السوداء، مكبلة بقيود الماضي ومربوط أفرادها بسلاسل طويلة متشابكة من عاداته وتقاليده التي تجعل الحركة للأمام عبئا مضنيا. إن تأكيد مفهوم الحرية من قبل الحاكم ذاته، المتضرر الأول لربما من نتاجها، يعكس فهما يكون في عمق التاريخ الإنساني القديم، فهما أتى نتاج تجارب طويلة ومريرة أوصلت المجتمع وحاكمه إلى تعزيز هذا المفهوم الإنساني الأقدس والأكثر نبلًا: حرية الإنسان.
إلا أن الحديث عن الحرية أصبح في مجتمعاتنا اليوم ذا منحى كلاشيهيا ونحن نكرر الخطاب ذاته ونسوق الحجج عينها. لربما لن نتقبل وتتقبل أنظمتنا هذا المفهوم إلا إذا تخاطبنا بمفهوم الفائدة الأناني، كما كان الخطاب في المجتمع الغربي منذ ألف سنة ويزيد. لربما نحتاج أن نؤكد أن حرية التعبير هي مصدر تنفيس، وأن الشعب الذي يعبر بحرية قلما يثور وطالما احتفظ بحكامه رعاة الحرية. حرية التعبير هي تبديد للغضب، وهي في الوقت ذاته كشف عن المستور، فالإنسان وقت غضبه وفي عز إنشاده وهتافه، سيقول أكثر مما يقول، سيكشف عن مستور ويفضح مخبئًا ويُظهر ما كان، ولربما ما سيكون. أكثر ما يفيد أي نظام حاكم هي مساحة الحرية التي يقدمها لشعبه، حرية ستبقي الشعب مكشفًا أمام الحاكم، منفسا عن غضبه، هادئا حتى في اعتراضاته، وأكثر ما يفيد أي أيديولوجية دينية هي أن تفتح باب النقد الحر على مصراعيه، نقد سيبقي الثقة متبادلة، والإيمان حقيقيا من دون زيف يحجب خوف، والأفكار الدينية متجددة بتعرضها لهواء النقد وشمس التفكير والتطوير المستمرين.
الحرية لا حد لها، والنقد لا سقف له، في الرأي السياسي وفي الرأي الديني، وبالأخص في الرأي الديني، وإلى أعلى سقف يمكن الوصول له وإلى ما عداه، ومن دون ذلك، سيبقى الإيمان زائفا والتقوى تمثيلا والممارسات الدينية مجرد حركات تمثيلية يثبت بها الشخص إنتمائه ويحمي بها نفسه. لربما نحن شعوب تفضل كنس الأتربة تحت السجادة، إلا أن أتربتنا تكومت، وسجادتنا انتفخت وتعرجت، وها هو زمن التنظيف والتهوية يلح علينا، لقد حان وقت رفع السجادة وتهوية المكان.