«زي الفريك»

إن تحمُّل مبدأ الحرية والتعامل الصبور والحضاري مع تبعات هذا المبدأ هما، بلا أدنى شك ودون أي منافسة، السببان الرئيسيان في تطور الغرب وفي قوة وسرعة وإبهار حضارته الحالية. ليس هناك فصال حول مفهوم حرية الرأي، هذه الحرية كاملة متكاملة، لا حدود لها ولا «لكن» يمكن أن تتبعها، والكليشيهات التي يرددها البعض أن «نعم نحترم الحرية ولكن في حدود، ولا يوجد شيء مطلق، وحريتك تقف عند حدود حرية الآخرين» هي كليشيهات بائدة، ما عادت تؤدي حتى غرضها الساذج السابق. ليس لحرية الرأي حدود، والحرية بطبيعتها مطلقة، مستبدة في انطلاقها، ونعم صحيح، حريتك تقف عند حرية الآخرين، إلا أن ذلك بمعنى أنك لا تستطيع أن تستخدم حريتك لتقمع الآخرين، لا أن يراعي الآخرون حريتك من خلال الحد من حرياتهم وآرائهم. حرية الرأي- التي لا علاقة لها بإيذاء الآخر جسدياً أو بالادعاء عليه كذباً، وهذان لا يدخلان في باب حرية الرأي بكل تأكيد- هي مفهوم مجرد، لا يمكن وضعه في قالب أصلاً حتى يمكن رسم حدود أوخطوط له، فمثلاً لا يمكن بأي حال أن تحد من إرادة الإنسان في التفكير غير المعلن، وما دام هذا النوع من الحرية موجوداً بيولوجياً، أي حرية تحرك مخ الإنسان بلا حدود، فهو مستحق كذلك اجتماعياً وإنسانياً.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الاختيار هنا قاطع لا مساحة رمادية فيه، إما أن تعيش مع الحرية أو تعيش مع القمع. لا يمكن أن تعيش مع القليل من الحرية، فالحرية مثل البحرـ تحب الزيادة، فكلما امتدت متراً تفرعت لها أذرع وأرجل وعقول ومدارك لألف ألف متر. كما ولا يمكن أن تعيش مع القليل من القمع، فالقمع «مثل الفريك، ما يحبش شريك» ولا يمكن أن يكون ومعه شيء من الحرية، فللقمع دائرة مغلقة، لربما تشجع أنت خطها وهو يدور في أقصى اليمين، إلا أنه ولا بد قادم نحوك من أقصى اليسار، ليلتف عليك ويخنقك لا محالة.
إلا أنه مما لا يمكن إنكاره هو أن لكل من الحرية والقمع مميزات وتبعات، والاختيار لك، فمع الحرية، ستعيش متخففاً من الضغوط، طبيعياً، معفياً من التمثيل على نفسك والناس من حولك، مع الحرية ستقول وتناقش وتجادل، وستظهر أفكاراً مجنونة جديدة تدفع بالبشرية خطوات هائلة للأمام فتريحك وتأخذك لدرجات غير مسبوقة من الرفاهية والأمان، إلا أنه مع الحرية كذلك ستسمع وترى وتتعايش مع الكثير مما تكره، وستضطر أن تفسح مجالاً بجانبك لمن لا تحترم، بل ولمن تحتقر وتكره، وستكون ملزماً بتحمل مسؤولياتك تجاه نفسك وصغارك، فتراقبهم وتحميهم وتزرع بهم الأفكار التي تؤمن بصحتها وتكون أباً أو أماً حقيقيين يتحملان المسؤولية ولا يعتمدان على رقابة الحكومة ومنعها.
أما مع القمع فستعيش متخففاً من ضغوط المسؤولية، لن تقلق على الكتاب في يد ابنك ولا على البرنامج الذي تشاهده ابنتك، فالحكومة وصية عليكم جميعاً. مع القمع الذي يسري باتجاهك (وهو غالباً النوع الذي ستؤيد وتساند) لن ترى سوى ما يسرك، ولن تسمع سوى صوتك، ولن تسود سوى آرائك، مع القمع ستشعر أنك علية وأغلبية وقوة فكرية، ستدرس المدارس أفكارك، وسينشر الإعلام صوتك، وستكون كل الألوان ألوانك، والخطوط خطوطك، واللوحة على ذوقك، معلقة على زاوية مريحة لعينيك. إلا أنه مع القمع هناك خطورة محيقة، فما أن تتحول الكاميرا عنك نصف درجة حتى تختل الصورة، وتتداخل الألوان، وتتشوه اللوحة التي كانت للتو مبهرة. سيختفى صوتك وتظلم رؤيتك وتغيب آراؤك لتصبح فجأة طبقة مسحوقة وأقلية ومهمشاً فكرياً، ستداري أفكارك عن الناس، وستعلم أبناءك أفكارك خفية مشجعاً إياهم على النفاق في محيط المدرسة وخارجها، لن يكون لك وجود إعلامياً ولا لون اجتماعياً ولا لزوم سياسياً، ستكون عالة على المجتمع القمعي الذي لا بد أن يدفع من أمواله للمباحث وأمن الدولة والشرطة السرية لتتابعك وتحمي الآخرين من اختلافك، ستكون وحيداً، وحيداً جداً، ولربما هذا هو أسوأ نتاج القمع.
بين مؤيد ومعارض لقصص النساء الهاربات من بلدانهن العربية الإسلامية، الفتاة السعودية رهف مثالاً، وبين محاكمات لأخلاقهن وظروفهن وبالطبع أخلاقهن وشرفهن، يبزغ مفهوم الحرية كحلم بعيد يدفع بهؤلاء النساء المعانيات من الوصاية الذكورية والمفهوم الأبوي الاجتماعي للحياة، لترك الجمل بما حمل، وللمخاطرة بالحياة والتضحية بالراحة والمقامرة بالسمعة، فقط لتذوق شيئاً من هذا المبدأ الذي به تحيا الكائنات، كل الكائنات، وتزدهر. تهرب هؤلاء النساء من راحة القمع لمعاناة الحرية، هو اختيارهن أن يحيين تعددية لا تعاملهن على أنهن درر مكنونة أو مجوهرات مدفونة، بل على أنهن بشر كاملات عليهن أن يتحملن مسؤولية أنفسهن وأسرهن كما الرجل تماماً، لا فرق مادياً أو عملياً أو معنوياً، هن اخترن الطريق الصعب بكل تبعاته، فما هو اختيارك؟