أمر عليها منذ شهر ديسمبر الماضي وإلى يوم كتابة المقال، آخر أيام العمل في الفصل الدراسي الصيفي في جامعة الكويت، بشكل يومي. أجدها كل يوم في نفس المكان، جالسة على أحد الكراسي حمراء اللون الممتدة في صف مرتب في إحدى ردهات الجامعة والتي أمر فيها بعجلة في طريقي إلى فصلي الدراسي.
كل يوم في نفس المكان تجلس هي مرتدية ذات الطقم الباهت شكلاً ولوناً، “يونيفورم” البنطال والقميص المتعارف عليهما للعاملات في المنازل في لون أخضر فاتح جداً يصل حد أول درجات البياض.
كما هي دائماً وإلى اليوم، يوم كتابة المقال، صامتة، هادئة بهدوء ملبسها، مغيبة وباهتة الوجود بغياب وبَهَتان لونه. تجلس “زهرة”، وهمُ اسمٍ تصورتُه لها حيث لم أسألها في يوم عن اسمها، بصمت وجمود، لا تلفون يشغل يدها مثل كل بقية الجالسات والجالسين على الكراسي المتفرقة، لا حركة تميز كيانها الحي، لا شيء يشي بوجودها سوى رفعة الرأس الخفيفة والابتسامة العذبة التي تستقبلني بها كل يوم ساعة مروري المحددة.
كل يوم ألقي عليها التحية السريعة تصاحبها دوماً أمنية أن أضمها إلى قلبي وأعتذر لها عن هذه الحياة الظالمة الباردة التي جعلتها تجلس في ملبسها الباهت خارج فصل دراسي كان يفترض أن تكون بداخله وعلى كراسيه.
أصبّح عليها “صباحك خير يا صديقتي”، فتومئ برقة باتجاهي، وفي قلبي أردد “صباحك عدالة غائبة يا ابنتي”، وليتني أستطيع أن أناديها بابنتي، لربما هي لن تقبلها، لربما لديها أماً في الشرق الآسيوي البعيد تعمل هي جاهدة لتوفر لها لقمة عيشها وكرامة معيشتها.
أود أن أعرف المزيد عنها ولكنني لا أجرؤ، بأي حق أبدأ حواراً وأسأل أسئلة خاصة؟ لربما تكفينا هذه العلاقة الهادئة، لربما هي علاقة تطبب جرحاً قديماً في قلبي وألماً متجدداً في صدرها، ولربما هي علاقة ليس لها أي معنى، لن أعرف أبداً.
أكره هذا “اليونيفورم” الغبي الذي أراه دوماً على الكثير من فتيات ونساء الجالية الفلبينية العاملات في دول الخليج. أكره طبقيته وحدوده الفاصلة التي يخلقها بيننا كبشر والأهم بيننا كنساء.
أنا و”زهرة”، لربما نشترك في الكثير من الهموم النسائية، لربما نتشارك في الكثير من العواطف والمشاعر والمخاوف، إلا أن المؤكد أن حظوظنا شديدة التباين، عميقة الاختلاف، حظوظ تمعن في التفرقة بيننا كنساء في هذا العالم الذكوري شديد العنف والقسوة، حظوظ يؤكد تباينها الظالم هذا الزي اللعين الذي يمعن في تبيان سخافة ضربة الحظ الجينية التي وضعتني في موضعي المترف ووضعتها في موضعها الشقي العسير.
يا لوجع الذكرى، لحظة وصولي لهذا السطر من المقال تذكرت “زهرة” أخرى، “زهرة” التي رافقت ابنتي في المدرسة منذ سنوات مضت والتي كانت تكافح مرضاً عضالاً سرقها من الدنيا في 2011. عادت صغيرتي يوم غياب زهرة من المدرسة محملة بخلطة من الغضب والحزن لم أعرف وقتها كيف أتعامل معها.
“لماذا زهرة يا ماما، لماذا هي؟” لا أتذكر الهراء الذي لابد أنني قلته لها كأم تواسي صغيرتها، لكنني أتذكر تحديداً هذا السيخ الحار من الألم الذي اخترق قلبي وتلك الدموع الساخنة القريبة من الاحمرار التي سالت على خدي ابنتي وهذا التشبث العنيف بيننا، حين أخذتها في حضني أستنجد بها من ترويع المأساة وتستنجد هي بي من مصادفتها عديمة المعنى.
لم نعرف ما يمكن أن نقوله أو كيف قد نقوله سوى أننا سنبقى نتذكر “زهرة” في كل زهرة نراها وكل شجرة نقف تحتها ومع كل نسمة هواء وخيط حرير ونغمة عذبة ولون شجي في لوحة نصادفها.
وها هي “زهرة” تحضرني بعد عشر سنوات من وفاتها مع مقال، مقال عن “زهرة” أخرى، معذبة عذاباً آخر، تناضل نضالاً مختلفاً في دنيا لا ترحم ولا تعدل ولا تمنطق شيئاً من أحداثها القاسية مطلقاً.
لابد أن لـ “زهرة” ذات الزي الأخضر الباهت أسرة تركتها خلفها بألم وعذاب، لابد أن لها أحلاماً وطموحات وآمالاً انهرست تحت ضروس العمل القاسي الذي لا يرحم ولا يتوقف، في طيات واجبات خدمة البيوت التي لا تتوقف أربعة وعشرين ساعة في الأربعة وعشرين.
لابد أن لـ “زهرة” عينين تتابع بهما ملابس وحقائب شابات الجامعة فيذوب قلبها الفتي اشتهاءً، لابد أن لها قلباً يدق لفتى بعيداً في الغالب الأعم لن ينتظرها ولن تعود هي إليه في زمن معقول، لابد أن لها طموحاً وحلماً ذابا في كي الملابس وغسيل المواعين ومرافقة الطالبة، التي هي في الغالب تعاني من إعاقة ما تحتاج للخدمة والمرافقة، وانتظارها بالساعات خارج الفصول الدراسية.
كل الزهور الرقيقة تذوب في هذه الدنيا الباردة العدمية، أفلا أقل من أن نظللها بشيء من الرحمة إبان زمنها العسير على هذه الأرض؟
ليت هذا “اليونيفورم” الكريه بكل ما يحمله من دلالات ومعان يختفي من ظاهر حياتنا، هذا الزي الذي بتشابهه وبهتانه يحول كل هذه الفتيات والسيدات إلى نسخ متطابقة في وعينا، وكأنهن “قطع بشرية” متكررة، لا إنسانات مختلفات ذوات ماض وحاضر وطموحات وأحلام وأشواق وعذابات.
هذا “اليونيفورم” الكريه كما يوحد المظهر يوحد كذلك المنظور والشعور، يجعلنا نرى هذه العاملات كأنهن صوراً مكررة مخليِّة، كأنهن كلهن واحد متشابه، يفقدنا القدرة على التواصل الطبيعي الذي يمكننا من تمييز الفروقات البشرية والظروف الإنسانية.
لم أتصور أن أتمنى قانوناً في يوم يحكم المظهر، إلا أنني أتمنى لو يسن قانون يمنع قسرية “اليونيفورم” الكريه. لربما من هذه الخطوة البسيطة الظاهرية، نستطيع أن نميز اختلافات الزهور.