زمن الأشجار

عندما تفوق القدرات العقلية حدود الجسد، يتفجر العذاب في جوانبه وأطراف الروح، فيتكور الإنسان على معاناة تفوق الوصف، حالة من الانفصام بين عقله وجسده تودي به لكره أحدهما، لكره نصف وجوده، فتتعلق المشاعر وتتجمد الأطراف ويعيش البشر… ميتاً.

هذه الحالة تكررت وتتكرر مع الكثير من البشر الذين تحبسهم مفاهيم بآلية عنصرية قميئة داخل أجسادهم، حتى يكرهوا هذه الأجساد وهي من ذنب الحبس براء. فالسود، الذين يشكلون المثال الأوضح على سذاجة وقماءة العنصرية البشرية، حبسهم لونهم، الذي هو في الحقيقة خطوة تطورية للجلد واللون الإنساني، في “غيتو” مريض خسرت البشرية بسببه الكثير سواء من بشر رائعين أو من مبادئ إنسانية سامية. مرضت البشرية بعنصريتها ونظرتها الساذجة للجسد البشري، بل وبتقسيمها السطحي للإنسان: أبيض وأسود، ذكر وأنثى، آري وسامي، إلى آخرها من تقسيمات قد تفرضها البيولوجيا، والتي يتعنت فيها الفكر الإنساني المريض محولاً إياها من حالة طبيعية جميلة إلى مرض شوفيني رهيب.

وها هي المرأة تعاني، محجوبة في جسد هو “الآخر” و”المختلف”، فالأصل هو الجسد الذكري، حتى أن اللغة، وهي انعكاس للفكر المجتمعي، تشير للبشر العام على أنه “هو”، وللخالق على أنه “هو”، ولكل ما هو مبدئي وأساسي على أنه ذكر، في حين أن الأنثى تصبح “الآخر” والاستثناء. هذه السمات العظيمة في الجسد الأنثوي، مبيضيها، رحمها، التجهيز المميز للمداد البشري، كلها في الواقع عبء عليها، قيود تكبلها بحكم الفكر الإنساني الساذج العنصري الذي يرى في كل هذه القوة ضعفاً وفي كل هذا التطور الجسدي نقصاً.

فإلى متى نتعامل مع أجسادنا على أنها عبء وأنوثتنا على أنها قيود ثقيلة؟ كم مرة يجب أن تتعذب صغيرة بأمنياتها في أن تكون ولداً، حتى تتفتح آفاق الدنيا أمامها مقدمة لها نسمات حرية ليست من نصيب جنسها المنكوب؟ كم مرة يجب أن تقهر كبيرة بحكم أنوثتها، فيتصارع داخلها القوي المستقل، عقلها المفكر، شعورها العميق بقدراتها، مع فكر مريض ومجتمع منكوب بعنصرياته، يجبرها على أن تتصرف وأحياناً أن تصدق أنها مخلوق ثانوي؟

في مقدمة كتابها “الجنس الثاني”، تتساءل سيمون دي بوفوار، المفكرة النسوية الفرنسية، عن سبب تفادي النساء استخدام لفظة “نحن” للإشارة لأنفسهن، وكأن “نحن” في تعبيرها عن كينونات مجتمعية مختلفة لا يمكن أن تشير إلى جماعة نسوية. لماذا، تناقش دي بوفوار، استطاع السود واليهود والعمال وغيرهم أن يجتمعوا على قضية، أن يتحدوا من أجل هدف، ولم تستطع نساء العالم أن يتحدن، أن يجدن رابطاً بينهن أقوى من الروابط التي يقمنها مع الرجال؟ تعلل دي بوفوار ذلك بأن النساء يفتقدن التنظيم الصحيح، حيث يعشن الشتات بين الرجال، ويتمتعن ببعض المزايا مقابل “ثانويتهن” الإنسانية، ولذلك، هن متخوفات من التضحية بالمزايا، قابعات أسفل الفكر الشوفيني، فهو آمن في قمعه، مريح في ذله.

اليوم نحن أكثر وعياً باستقلالية العقل الإنساني عن لونه أو جنسه، لذا، نحن في أمس الحاجة إلى تغيير فوري وعميق. يبدأ التغيير في فلسفة حياتنا كنساء كويتيات تحديداً من الالتفات للشأن المواطني للمرأة إصراراً على تغيير القوانين التي تنتقص من مواطنتها وآدميتها، والتي أهمها قوانين الأحوال الشخصية التي تجعل للزواج نكهة عبودية في وضعها حق الإمساك والتسريح بيد الرجل وحده، في حرمان المرأة التي تعود إلى الزواج من حقها في حضانة أطفالها، في سماحها للرجل بأن يعدد زوجاته بغدر سري، وغيرها من القوانين التي معها تبدو الدولة وكأنها تتواطأ مع الرجل في تحجيم وإذلال المرأة وإلزامها موقع “الجنس الثاني” كما أسمته دي بوفوار.

هذا التغيير سيتطلب تضحية من المرأة ببعض الراحة المادية والجسدية التي يوفرها هذا النظام المهين، فمثلاً لن يصبح العبء المادي على أكتاف الرجل وحده، ومدخول المرأة لن يكون من حقها وحدها تتفضل بشيء منه إن شاءت. المساواة المطلوبة هي مساواة حقيقية، لن تتحقق طالما بقينا نحن النساء نتشبث بمظاهر الراحة المهينة التي تجعل منا رعية تحتاج إلى راع، إنما تتأتى هذه المساواة إذا شعرت المرأة، قبل الرجل، بحقيقة إنسانيتها الكاملة وما يتبع ذلك من حقوق وواجبات، لا تنقص عن الرجل شيئاً ولا تزيد.

لم يعد دور الدرة المكنونة مناسباً لزمان “يكن” الإنسان بحد ذاته كمبدأ ثمين في كل أحواله وأشكاله وأجناسه وألوانه. الدور اليوم للأشجار الباسقة فوق الأرض لا لصخور مدفونة أسفلها، أكون شجرة تغالب الريح وحرارة الشمس في حرية ارتفاعها أطيب لعيشي ألف مرة من أن أكون “درة” مدفونة في دفء الذل وأمن الظلام.