رومانسية

يشتعل هذه الفترة الوضع الطائفي في منطقة الخليج إثر عدد من الأحداث المتتابعة شديدة الغرابة والغموض، فالأحداث التي بدأت بخلاف «بين الأشقاء» تحولت إلى شق عميق نكاد نراه يبتلعنا جميعاً، شق تشكل في فترة زمنية قصيرة مما يثير الكثير من الشكوك حول الوحدة والأخوة التي طالما تغنت بها دول الخليج.
والحقيقة أن الروابط الجغرافية والاجتماعية والدينية ووحدة الأصول وتقارب اللهجات كلها خلقت كينونة مترابطة من دول الخليج، إلا أن هذا الترابط لم يخل من مشاكل واختلافات وخلافات بقيت رابضة كالجمر الخفي، مغطاة بطبقة كثيفة من الرماد الإعلامي الذي ستر كل الخلافات، وموه كل الإختلافات، صارخاً بالمحبة المبالغة التي كثيراً ما أشارت ألوانها الفاقعة إلى زيف الكثير من المعاني المتضمنة فيها. ليس هذا عيبا في دول الخليج تحديداً (الدول العربية ككل حاولت تقديم هذه التمثيلية في القرن السابق قبل أن تنبذها مع بداية القرن الحالي). فالترابط القائم على قيم الحب والإخاء الرومانسية بعيداً عن مفهوم المصلحة المشتركة هو ترابط مهزوز، فالدول ككينونات سياسية تحكمها المصالح والعلاقات والموازنات الدولية لا الحب والإخاء والرومانسيات العاطفية.
الجانب المذهل في موضوع الخلاف يتجلى في اصطفاف الشعوب الخليجية خلف حكوماتها بتبعية مطلقة، شعوب متجاورة يربطها الدم والنسب ووحدة الأصول واللغة والدين، تركت هذه المعاني، ونبذت كل الأغاني التي ترن في إذاعاتنا كثيراً حول وحدتنا الخليجية ورومانسية علاقاتنا، وركضت مصطفة خلف القرارات الحكومية المختلفة، فأي إشارات توحي بها هذه المواقف حول حقيقة التضامن الخليجي الشعبي؟ هل يشير واقع الحال إلى ضحالة العلاقات الشعبية الخليجية أم إلى عمق الانتماء الحكومي لشعوب الخليج النابع من المفاهيم القبلية؟
أما الجانب المتوقع والمحزن في الموضوع فهو الانقسام الطائفي اللاحق لكل أزمة خليجية خصوصاً في الآونة الأخيرة. فما أن ينكشف خلاف، حتى ينكشف معه طبق الطائفية العفن، وتفوح رائحته حتى تكاد تغطي على رائحة الخلاف الأًصلي، وشيئا فشيئا، يترك الناس موضوع الخلاف، وينهمكون في خلاف الخلاف، متلذذين باصطفافاتهم المذهبية وبتراشق اتهامات الخيانة المبطنة والمعلنة لدولهم الصغيرة الثرية، كل يشكل موقفه حسب «منطقة سكن» شيخ مذهبه. في حين أن هذه ليست آفة مقتصرة على دول الخليج، إلا أنها أشد وضوحاً وأكبر خطراً في هذه الدول بالنظر لأحجامها الصغيرة، وثرائها الكبير، وقلة أعداد سكانها المتعاركين.
وفي حين أن الأقلية الشيعية في الخليج عانت ما عانت في سنوات ماضية كما أي أقلية أخرى في أي مكان في الدنيا، إلا أن هذه الأقلية الشيعية قد ساهمت، بقصد أو بدونه في تعزيز الموقف الإقصائي تجاهها. لا بد من مواجهة المشكلة، والمواجهة تبدأ من الاعتراف أولاً بالتمييز ذي الدرجات المتعددة ضد الشيعة في دول الخليج والمتبين في انحسار المناصب المهمة ومواقع صنع القرار عنهم وفي معاناتهم التعبدية التي قد تصل حد الاضطهاد في بعض المواقع الخليجية، وفي عزل مفاهيمهم المذهبية عن المناهج الدراسية، وثانياً بالاعتراف بالميل العاطفي الشيعي تجاه إيران وحزب الله الذي يتسبب في حالة من غياب الثقة وتثبيت الشكوك تجاه الشارع الشيعي. وفي حين أن هذا الميل الشيعي الشعبي (أي ميل الشارع الشعبي العام وليس ميل بعض السياسيين الشيعة الذي هو قصة أخرى) في معظمه عاطفي ساذج نوستالجي (أتكلم بحكم موقعي كشاهدة من الداخل)، غير مبني على فهم حقيقي للسياسات الخارجية أو لمفهوم ولاية الفقيه، إلا أن ضرر هذا التعاطف والود كبير جداً على الوضع الشيعي الخليجي، فهو يحجب الثقة، ويثير الشكوك، ويقسم الصف من دون وعي من الطرف الشيعي للصورة المنعكسة لتعاطفهم ولآثارها الجسيمة.
بالطبع الموقف الشيعي من إيران وحزب الله يدخل في مساحة حرية الرأي، طالما أنه بقي رأيا وموقفا ولم يتحول لأي فعل يخل بالأمن، إلا أن حقيقة الموقف تنطوي على سذاجة غير مقدرة في الشارع الشيعي العام. يصطاف شيعة الخليج في إيران كثيراً، ينظرون بفخر للدولة الشيعية، وينظرون بتعظيم وامتنان لحزب الله، غير واعين أنهم لن يستطيعوا العيش تحت النظام السياسي الإيراني ليوم، وأن شيعيتهم بما اختلطت به من عادات وتقاليد ومفاهيم خليجية أصبحت أقرب للمفاهيم الخليجية السنية عنها للمفاهيم الشيعية الإيرانية أو اللبنانية، ويمكن الرجوع لسلسلة من مقالات الكاتب الكويتي المبدع خليل حيدر الذي كان أول من كتب في الأفكار المذكورة أعلاه للاستزادة من التفاصيل والأمثلة حول الموضوع.
ولكن نبقى كلنا في الهم طائفة، فما أن تقع لنا واقعة أو ينزل بنا حدث، حتى تطفو هذه الخلافات الطائفية، ويبدأ التراشق المذهبي فتنشرخ الأرض تحت أقدامنا سريعاً وعميقاً وفي مساحة محدودة وصغيرة ينذر حجمها بخطر جسيم إذا ما تركنا للشرخ أن يتمدد ولعمقه أن يغور عميقاً في الأرض. نختلف أو نتفق كدول الخليج، حالنا من حال كل دول العالم، يخرج من يخرج من مجلس التعاون، لا بأس، تحدث في أفضل العائلات، لكن أن نتناطح مذهبياً ونشكك في بعضنا بعضا، فهذا ما لا تحتمله أحجام دولنا ولا أعدادنا ولا قوانا السياسية، وهذا ما يحتاج أن يفهمه الطرف السني المتشكك دوماً والطرف الشيعي المتظلم أبداً ودائماً، أن لا الشك يوصل لحل ولا المظلومية ترفع من قدر. ويبقى لي أن أفتخر بالموقف الكويتي المشرف، وإن كانت شهادتي مجروحة، وبمحاولات الكويت الحكيمة والمستمرة لرأب الصدع، والذي هو ليس موضوع مقال اليوم، عسى أن نصل لبر أمان قريب.