في كل مرة أحضر جلسة عائلية نسائية اجتماعية من تلك الجلسات ذات الطابع الديني؛ ختمة قرآن مباركة لبيت جديد، جلسة عزاء، جلسة احتفاء بمولد إمام أو وفاة آخر، احتفالية زواج دينية (حيث تستبدل الأغاني بالأناشيد الدينية)، يستحوذ عليّ تماما جو التاريخ السياسي والسياسة التاريخية الذين يعبقان المكان بقوة دون فهم حقيقي لا من صاحبة الدعوة ولا من الحضور للمعنى العميق الذي تجذره هذه الجلسات بوجود “الواعظات” أو “الملايات”، حسب اللفظة الخليجية الدارجة، واللواتي يتولين مهمة قراءة الأدعية وإلقاء الخطب الوعظية وأحيانا إنشاد الأناشيد الدينية في الأعراس والمناسبات الاجتماعية الأخرى.
المجتمع الشيعي هو مجتمع شديد العاطفية، ملحمي التعابير، متجذر الطقسية، مناسباته الدينية تنتشر على مدار السنة، وكلها تمارس بطقسية مرتفعة وبعاطفة مغرقة وبدموع لا نهاية لها. لربما هو التاريخ الشيعي الطويل من التهميش والقمع، تاريخ مظلومية أقلية لا تاريخ انتصار أكثرية كما هو التاريخ السني، هو السبب في هذه الملحمية التاريخية التي تصبغ كل مناسبة وذاك الإغراق العاطفي الذي يحيط بكل تفاصيلها.
في كل الجلسات، بداية من جلسات الحسينيات، والتي لربما هي موقع متوقع للسرد التاريخي، وصولا إلى العزاء والاحتفالات والتي لا تتناسب أجواء أي منها مع هذه السردية المفعمة بالمضامين السياسية، أقول في كل هذه الجلسات يتكرر ذات الخطاب التاريخي البطولي والمظلوماتي لآل البيت ولكل من جاء من بعدهم والانتصاري في نهاية الحياة الدنيوية.
في الواقع، لا يختلف الخطاب الشيعي كثيرا عن خطابات بقية المذاهب والأديان من حيث معاناة أبطالها وصراع المنتمين لها مع الحياة وأشرارها وصولا إلى الانتصار الموعود الأخير قبل قيام الساعة، إلا أن ما يفرق الخطاب الشيعي هو ملازمته لكل أيام السنة ولكل أنواع المناسبات، الحزين منها والسعيد، العام منها والخاص.
إضافة إلى ذلك، ورث الخطاب الشيعي الاجتماعي طقسية غريبة بعض الشيء من حيث العديد من الممارسات التي يؤديها الحضور خلال المناسبات المختلفة، والتي لربما هي موروثات امتدت من المنطقة العراقية والإيرانية القديمتين حيث تختلف طقسية هذه الممارسات تماما عن طقسية ممارسات شبه الجزيرة الصحراوية السريعة والأقل ملحمية وعاطفية.
كتب المفكر الكويتي الرائع الأستاذ خليل حيدر قبل فترة سلسلة من المقالات يتحدث فيها عن مشكلة الشارع الشيعي الذي لا يعي أحيانا انجرافاته الخطيرة خلف خطابات تعمق التفرقة وتؤسس للبعد. نعم، الشارع الشيعي مميز ضده في دول الخليج بلا شك، فهو شارع أقلية يعاني تفرقة قد تصل لحد الاضطهاد في أماكن معينة من شبه الجزيرة، ولربما لهذا التوجه التمييزي القمعي دور في دفع الشارع الشيعي باتجاه خطابه العاطفي المغرق بسردية التاريخ السياسي، إلا أن ذلك لا ينفي الدور الذي يلعبه الشارع الشيعي، أحيانا كثيرة بسذاجة وعن غير معرفة بالنتائج، في ترسيخ المخاوف تجاهه كشارع غريب الأطوار، مغرق بالطقسية، غارق في خطاب مظلومي لا يريد أن يتحمل مسؤولية أو يتخذ خطوة إلى الأمام.
في آخر مجلس ذكرى عزاء على أرواح عدد من أفراد العائلة حضرته، تحدثت الواعظة عن حدث مبايعة السيدة خديجة للإمام علي (حسب روايتها)، وعن وفاة السيدة فاطمة، ثم عن ملحمة مقتل الحسين وأهل بيته. روايات مقتل الحسين تحديدا هي حارقة لكل من يستمع لها، فهي تحكي قصة “تطهير عرقي” تاريخية مغرقة في الألم، وهي رغم أنها لا تختلف في نوعية سرديتها عن كثير من المجازر التي حدثت في التاريخ، إلا أن ارتباطها بحفيد الرسول خلق لها، فوق الغضب العقائدي الشديد، تداعيات سياسية انشقاقية امتدت على مدى الألف وأربعمئة سنة لاحقة.
أطرقت أحاول أن أرهف السمع، فوق نهنهات السيدات التي ترتفع بين الفينة والأخرى لتتحول إلى عويل ممطوط، لما تسرد الواعظة وللطريقة التي تستعرض بها الأحداث، لأجد أن القصة البطولية المؤلمة تتحول على لسانها إلى قصة خرافية أسطورية، تأخذ في مبالغتها الكثير من قيمتها الحقيقية.
فالقصة بحد ذاتها لا تحتاج لأي مبالغات من حيث وقائعها التاريخية الوحشية ومن حيث مبدئية موقف الحسين وآل بيته حتى كما وردت في سردية معظم أهل السنة، فما الداع للمزايدات؟ وما مناسبة سرد هذه القصة ذات البعد السياسي البليغ والتاريخي العميق بكل حساسياتها ومعانيها السياسية وإسقاطاتها الاستشكالية على الوضع الشيعي ـ السني اليوم في مجلس عزاء نسائي، أكاد أجزم أن أقل القليلات من حضوره قد فتحت كتاب في يوم لتقرأ عن هذه الفترة السياسية وعن أحداثها التي شرخت الشارع الإسلامي شرخا لن يندمل؟
تشجع الواعظة السيدات على البكاء، تضغط على مواقع الوجع في قلوبهن، تذكرهن بمأساة حفيد الرسول ربطا بمصاعب ومآسي حياتهن، لتنهمر الدموع، ولا تعرف السيدات أتجاه حفيد الرسول أم تجاه حيواتهن بمشاكلها.
إلا أن الناتج الواضح عن كل ذلك هو تعميق الشعور بالأسى الذي يزيد الفجوة اتساعا والنفور قوة. إن هذا التذكير المستمر بمأساة الإمام الحسين وفي كل مناسبة، فرحا كانت أم حزنا، يرمي لخلق شعور غائر بالمظلومية والمأساوية في قلوب المستمعين والمستمعات؛ والأكثر، شعور بالانفصال عن محيطهم بتفرد مأساتهم وبعدها التام عن السردية الإسلامية السنية التي تشكل سردية الأغلبية.
هذا التأكيد المستمر في كل مناسبة وبأسلوب القراءة البكائية النائحة وباللهجة العراقية العاطفية يفرق الشارع العام الذي لا يقرأ أصلا ولا يعرف الكثير عن الأحداث السياسية والتداعيات التاريخية، وهي فرقة تقع دون حتى طائل تثقيفي، ويستقر الوجع في القلوب دون أي ناتج حواري يدور بين الطوائف ليستدعي الأحداث ويستشف منها الدروس.
كل الشوارع العامة ساذجة، الشرقية منها أو الغربية، الإسلامية منها أو التي على ديانات أو فلسفات أو ثقافات أخرى. الشعوب عادة، في جمعيتها، ليست عالية التثقيف مما يجعلها قابلة جدا للتعبئة، ليس الشيعة في ذلك مختلفين عن السنة، ولا المسلمين في ذلك أكثر من المسيحيين؛ فهذه صفة إنسانية تنطبق على الجموع البشرية. إلا أن البداية المأساوية والتاريخي التمييزي الطويل للشيعة، كثاني طائفة في المجتمع الإسلامي، جعل من حواراتها الجمعية حوارات مأساوية طوال الوقت، حوارات غير قابلة للتجاوز، مما يجعلها، في توهجها وعاطفيتها واستمراريتها التي لا تتوقف على مدار السنة، وبالتالي تعبويتها الشديدة، مؤذية داخليا على النفس الشيعية وخطرة خارجيا على الموقع الشيعي في السردية الإسلامية العامة.
نعم مظلومية السردية هي نتاج قمع طويل، إلا أن الخطاب العام يحتاج أن يتغير حتى لا ينفصل الشيعة نفسيا عن الشارع العام وحتى لا يشعر السنة بغرائبية الشيعة في المحيط الإسلامي. ولكن، تبقى ضرورة حماية الفكر الشيعي، كما أي فكر آخر، وضمان حقه في حرية سرديته، فكيف يمكن تحقيق التوازن لهذه المعادلة؟ لربما تكون محاولة الإجابة موضوع مقال قادم تلهمني به جلسة عائلية مؤثرة أخرى.