لربما أحد أهم أسباب تطور المجتمع الإنساني بشكل عام هو تحوله من مجتمع جماعي إلى مجتمع فردي، بمعنى تطور اهتمامه من مصلحة المجموعة، التي كثيرا ما كانت تتحقق على حساب الفرد، إلى مصلحة الفرد التي يجب أن تسعى المجموعة بأكملها لتحقيقها وتأمينها. مع مطلع القرن التاسع عشر أصبح الفرد مهما، بل وأكثر، أصبح حتى الفرد «المعطوب» ثمينا، والمعطوب المقصود به هنا: الطفل والمرأة والمريض والفقير وغيرهم من المهمشين. أصبح لكل إنسان، مهما كانت ظروفه أو مستواه أو قدراته العقلية أو الجسدية، قيمة ودور وإضافة. من هنا، ودفعا من الحركة الإنسانية إبان مرحلة الإصلاح الأوروبية خلال القرن السادس عشر، وبمساعدة الحركة الرومانتيكية مع مطلع القرن الثامن عشر، والتي جميعها أعلت الإنسان والإنسانية كمبدأ وقيمة، تطور الفكر الإنساني الغربي بشكل كبير، حيث أدركت الحضارة الغربية أهمية الأفراد، أهمية تميزهم المنفصل، والكيفية التي يمكن بها الاستفادة من اختلافاتهم وتضادهم وتفردهم، بل وحتى «حظوتهم» بالقصور العقلي والجسدي.
هذا الاهتمام بالفرد والاحترام لتفرده واختلافه ما كان ليتحقق لولا خروج القلة (التي أصبحت لاحقا كثرة) عن السرب وتصادم المختلفين القلائل بالمتشابهين الكثر. فقط حين قرر بعض الأفراد أن يكون لهم رأي مختلف، وأن يكون لهم موقف منفصل، وأن تكون لهم حيوات مغايرة، حينها فقط ميز المجتمع، بعد عقود من الاضطهاد والتعذيب والعزل، قيمة اختلاف هؤلاء وأهمية انفصالهم عن السرب الموحد، حيث استوعبت الأغلبية هذا البعد العميق الذي أضافته الأقلية، وحيث فهمت الأغلبية أن اختلاف الأقلية يُنتج تغييرا نوعيا في الحياة ويتسبب في طرح أسئلة خطرة تضيف إلى الحياة ولا تتهددها، أسئلة سبق وأن غيرت الجنس الإنساني بأكمله وحمته، بل وساعدت على إبقاء نوعه، هذا النوع الذي كان لينقرض سريعا بأمراض التشابه والاستمرار والتكرار لولا رحمة الطفرات الفكرية النوعية الحقيقية التي نقلت الإنسان من ذاك الكائن البدائي الجماعي إلى الآخر المتفرد القادر على التفكير خارج نطاق الجماعة.
التمسك بالدين واحترام طقوسه لم يعد اليوم مُبَررا في الدول المدنية التي تحترم حريات الأفراد للتدخل في خصوصيات حياة هؤلاء الأفراد وفي اختياراتهم لأساليب معيشتهم المختلفة.
والقيمة الفردية لا يمكن تمييزها وتثمينها إلا إذا ما تم قبولها على أبسط المستويات كما على أعلاها، فمثلما للفرد الحق في أن يختار مقر إقامته وعمله وزواجه- وهي كلها أمور كبرى في حياة الإنسان، بالكاد تتقبل مجتمعاتنا، وبكثير من التدخلات والاعتراضات، قرارات الأشخاص حولها- فإن له الحق كذلك أن يتفرد في شكله وملبسه وأسلوب حياته وطريقة تعبيره عن هويته. يقول نوبوأكي نوتوهارا في كتابه «العرب: وجهة نظر يابانية» إن الدين «لا يتدخل في الملابس على الإطلاق، أعني لا يحدد للناس نوعية اللباس ولا شكله ولا طوله، وفي هذا تقدم كبير خارج القمع وفي اتجاه الحرية» (48) وذلك على الرغم من قوة الدين في اليابان وتحديدا «في مجال الطقوس» (48) كما يشير الكاتب ذاته.
إن التمسك بالدين واحترام طقوسه لم يعد اليوم مُبَررا في الدول المدنية التي تحترم حريات الأفراد للتدخل في خصوصيات حياة هؤلاء الأفراد وفي اختياراتهم لأساليب معيشتهم المختلفة. اليوم، لم يعد أسلوب الحياة أو طريقة الملبس أو حتى الهوية النفسية أو الجسدية المعلنة مساحة تتدخل فيها العقيدة الدينية أو مسرحا لاستعراض درجة تدين أو التزام الأفراد. لقد أصبحت حرية المظهر وحرية اختيار أسلوب الحياة من الحقوق الإنسانية الرئيسية التي لا تقاس عليها درجة التدين ولا تطلق على أساسها الأحكام، وذلك ليس فقط بحماية من قوانين الدول المتقدمة، بل وبحماية من الأيديولوجيات والمبادئ والأفكار التي زرعت عميقا في نفوس مواطني هذه الدول، الذين في معظمهم أصبحت بالنسبة لهم فكرة احترام الحرية الفردية وعدم الحكم على الأشخاص بسبب اختياراتهم الشخصية من صميم إيمانياتهم ومبادئهم البديهية.
بعد، نحن في مرحلة المجتمعات الجمعية، حيث مصلحة الجماعة فوق مصلحة الفرد، وحيث رضا الكل أهم من سعادة الواحد، بعد، نحن نعيش في ظل مجتمعات أبوية يحكمها رأي «الكبير» ويسير أمورها رضا الجماعة، وحيث السمعة هي أهم ما يجب حمايته، وكلام الناس هو أكثر ما يجب تجنبه، والاختلاف آفة والتفرد انعزال يقصيانك مجتمعيا ولربما يتهددانك قانونيا. بعد، نحن نؤمن كما يقول المثل أن «حلاة الثوب رقعته منه وفيه»، فالمتشابه عندنا جميل، والمختلف نافر بغيض، والثوب لا يكتمل إلا إذا تشابهت ألوانه وخطوطه ورقعاته. بعد، لم نر نحن كيف أن كل تكرار يحمل معه احتمالات كبرى بالفشل، كيف أن كل تشابه وتناسخ (حتى البيولوجيان منها) يؤديان إلى الشيء الكثير من المرض، ومع ذلك فأن يشترط المجتمع تشابه الأفكار والإيمانيات والأيديولوجيات فتلك على ضررها مفهومة المغزى والهدف، أما أن يشترط تشابه الملبس والشكل من خلال الأيديولوجيات والمفاهيم الدينية، فتلك فكرة تستحق التمعن، ولربما هي موضوع المقال المقبل.