يوماً بعد يوم ترتفع أعداد المقبوض عليهم في قضايا الرأي، نقرأ كل يوم أحكاما قاسية يسددها أصحاب الرأي من سنوات عمرهم ثمناً لتغريدة، وأحياناً لإعادة إرسال تغريدة، فما تأثير ذلك على القادم من مستقبلنا القريب والبعيد؟ ماذا سيحدث إذا خفنا جميعاً، إذا توقفنا عن الكلام، إذا تمت مراقبة “تويتر” بدقة وتعليب ما يقول الناس بصرامة، فلم يعد “يخطئ” أحد، ولم يعد “يتمادى” أحد، ولم يعد يخالف الحكومة أو ينقدها أحد؟ ماذا ستكون نتيجة تحويل “تويتر” إلى عالم حكومي مثالي “مؤدب”؟
يتجادل الناس كثيراً في تعريف حرية الرأي، يرى الأغلبية في مجتمعنا أن حرية الرأي ليست مطلقة، وأنها محددة بحدود الأدب والنقد الجاد والاحترام للدين ورموزه والسياسة ورموزها. المثير أن هذه الرؤية هي في الواقع تقف تماماً ضد مفهوم حرية الرأي، فالحرية تتحقق، بتعريفها المنطقي، عندما يتسنى للشخص أن يتحدث في غير المقبول وعندما يتحمل الآخرون التعبير الصريح عن هذا غير المقبول. الحرية هي ليست القبول بالآراء السائدة والحوار المحترم والكلمات المؤدبة، هي ليست القبول بتمجيد الدين ومديح الساسة، تلك جميعها لا تحتاج إلى حرية رأي، لا تتطلب سعة صدر ولا رفعا لسقف ولا تحصينا للمتحدث، فالمتحدث هنا محصن أصلاً بالقبول العام لهذه الآراء. متى نحتاج إلى تطبيق مفهوم حرية الرأي؟ عندما يأتي الرأي مخالفاً للحدود والأعراف، خارجاً عن حدود الحوار المقبول، صريحاً في نقده للرموز الدينية والسياسية، هنا يتبين مدى اتساع الحرية في المجتمع ومدى قدرة أفراده على تطبيق مفهومها الصعب العسير.
ولأن ممارسة الحرية صعبة، فهي تحتاج لتمرين، مثلما نمرن عضلات الجسم لتصبح قوية، كذا نحتاج لتمرين عضلات العقل لتصبح أكثر قبولاً بالمختلف، وكلما تمرنت عضلات العقل على قبول الحرية أصبحت عقولنا أكثر رشاقة ونفوسنا أكثر لياقة وصحة. الآن، ماذا لو توقف “تويتر” عن كونه المساحة الحرة المؤلمة التي هي الآن؟ ماذا لو أصبح الجميع ملتزماً حدود المقبول؟ ماذا لو بقيت كل الآراء خلف الخطوط الحمر؟ سيترهل عندها العقل الذي سيحرم التمرين المطلوب، سينغلق على نفسه ويتكور حول قديم أفكاره، فيهرم ويهرم ثم يصغر ويصغر إلى أن يقتله نقص أوكسجين الحرية الذي يبقي أرواحنا حية.
أنا شخصياً أتجنب الجارح من الحديث والمؤذي من التعابير على وسائل التواصل الاجتماعي، مع التحفظ على تعريف الجارح والمؤذي، فلمَ أطالب بحريتهما وأنا لا أستخدمهما أصلاً بل أبقى متضررة منهما؟ لأن السيئ يوازن الجيد والرخيص يحدد الباهظ، لأن الرأي الصريح حد الإيلام يبقيني واعية حريصة مراقبة لنفسي محاسبة لها، لأن النقد مهما قسا وسبب ألماً هو مثل الدواء، مؤلم للحظة وشافٍ لبقية العمر، لأن الحرية مهما كانت حارقة تبقى أفضل ألف مرة من المنع والحظر مهما كانا مريحين، لأن المنع والحظر يخلقان نوعين من البشر، رعايا وأتباعا خائفين صامتين، وثوارا قساة غلاظا ناقمين، لا ناتج وسطا لقمع الكلمة. نحن لسنا أحرارا معظم الوقت، إذاً يا حكومة دعي الناس يتكلمون، يعبرون، يغضبون بل يسيئون إلى حد ما، فكل تلك تخفف الضغوط وتساعد على تنقية النفس. سيكون لك يا حكومة شعب أكثر هدوءاً وأقل غضباً لو تركته على الأقل يقول ما يريد. هو في يدك طوال الوقت، تلعبين في مقدراته وحياته، دعيه فقط يقول، فمهما بلغ سوء القول يبقَ هو المتنفس الوحيد. فالواقع يقول إن حرية رأي هي مجرد تمويه، مجرد سراب لحريات لا يمكن أن يتحصل عليها الناس، ففي النهاية يقول الناس وتفعل الحكومة ما تريد، فلا تأخذي منهم حتى تنفيس القول. ولو استمررت، ولو أغلقت “تويتر” وإنستغرام وسناب شات، ولو راقبت الإنترنت ويوتيوب، ولو ضبطت كلماتنا وتحركاتنا وعددت علينا أنفاسنا، فسنجد طريقاً آخر، وسيكون طريقا وعرا مؤذيا، طريقا لا يمشيه إلا من لم يعد لديه شيء يخسره، فلك قبل أن يكون لنا، دعي الناس تتكلم، الكلام هو كل ما يملكون.