ما الأهم، الأمن أم الحرية وحق التعبير؟ هذا السؤال «المتزحلق» كثيراً ما تستخدمه الحكومات، فتبثه «بعفوية» الناصح الصادق وتطرحه «بحنان» الأم المحبة، وهي في عارض قمع أبنائها وتدبيس ألسنتهم. سؤال «يبدو» مهماً هو ذاك: الأمن أم الحرية، السلامة أم الحق في التعبير؟ «يتزحلق» معظمنا نحو اختيار الأمن والسلامة، فما فائدة الحرية في حضرة خوف دائم على الحياة وتهديد حقيقي للسلامة النفسية والجسدية؟ لذا، كثيراً ما نستسلم لبديهية الجواب دون أن «نسائل» السؤال نفسه: ألا تبدو أيها السؤال في حد ذاتك مريباً؟ إما… وإما…؟ وماذا عن العلاقة بين الاثنين؟ ولمَ علينا أن نختار بينهما دون أن نحاول الجمع بين رأسيهما بالحلال؟
الحرية هي مبدأ «يعترف» بالاختلاف، فالاختلاف حقيقة لن تزول في يوم، وما الحرية سوى مبدأ يقر بهذه الحقيقه وييسر وجودا مسالما لها، ومن جوهر الحديث القول إن الإنسان لم يصغ هذا المبدأ عن صفاء نية ومحبة واحترام لبقية البشر، فبالرغم من أن النظريات الليبرالية تقر مبدئية أن الإنسان مخلوق طيب، مجبول على الخير فطرياً، فإن هاتين الحسنتين ليستا فعلاً الدافع، وإنما السبب الحقيقي هو رغبة الإنسان في ذاك الذي تحديداً تخوفنا حكوماتنا من فقدانه: الأمن والعيش بسلام. فالحرية وحق التعبير اللذان ينتجان أحياناً صوراً فكرية غريبة وحوارات سطحية متدنية، وأنماطاً سياسية واجتماعية قاتمة، هما، وبما ينتجان، يضمنان الأمن والسلامة في الواقع، وكل النتاج السلبي المذكور لا يقترب بسوئه لا بكثير ولا بقليل من النتاج الإيجابي للحرية وحق التعبير.
نعم، أريد الأمن والحرية مع بعضهما، يعني «أريد كيكتي وأريد أن آكلها» أو على رأي سعيد صالح أريد أن «أذاكر وأنجح… الاثنين»، ولست على استعداد للتنازل عن أي منهما أو أن أتعامل مع سؤال يضعهما متقابلين متضادين بأي درجة. كما أنني لست على استعداد لجعل الحرية مشروطة اللهم إلا في حدود القانون وفي أسهل وأقل الدرجات والصور، على أن يكون لمبدأ الحرية قوة متعمقة في القانون تنفذه وتعززه وتضعه فوق كل اعتبار. لذا، فإن محاولة «تبييض» الجمهور والتأكيد دوماً على حكمته وصواب تصرفاته كدافع «للتصدق» عليه بحريته هي محاولة ساذجة ومرتدة لسعاً على صاحبها، ومثلها في ذلك مثل الذي يبرر القمع والعنف بسبب تهور الجمهور فعلاً أو لفظاً، فاستخدام «صحة أو خطأ» موقف الجمهور أو سبب تجمعه أو طبيعة الرأي الذي يجتمعون عليه كمبدئية نقاشية هو في حد ذاته خطر محدق بالحريات، فليس من المهم أن تكون «صح» وليست جريمة أن تكون «خطأ»، إنما الحرية مكفولة للجميع: الطيب والشرير، المحترم والغوغائي، صاحب المنطق ومنعدمه ويبقى القانون هو الحكم فيما إذا خرج الاختلاف في الرأي إلى حيز الإضرار «الشديد» بالآخرين.
الأصل الفكري للموضوع هو الحرية، والتي نفلسفها اليوم في لفظة ليبرالية، وتلك لا تنهزم إلا أمام خطر محدق بالحياة، وفي الدول الديمقراطية الحقة، هي لا تنهزم مطلقاً، حتى ليضحّي مؤقتاً بشيء من الاستقرار في مقابل ضمان هذه الفضيلة الرائعة التي، وفي النهاية، هي الضامن الأكبر للاستقرار ذاته وللأمان والرضا الشعبي العام. ولكننا من زاوية في هذا العالم تضحي بالبشر من أجل أمنهم، يعني مثل الطبيب الذي يضحي بالأم والمولود من أجل نجاح العملية.
نحن من منطقة ملتهبة «أمنها» يسحل دكتورا جامعيا، ويكسر جمجمة صحافي، و»يبقع» أجساد النواب، كل ذلك حباً في الشعب وضماناً لأمنهم… هي تضربهم لمصلحتهم وعشقاً فيهم، ومن المعروف أنه من العشق ما قتل وسحل، وعند هذه المرحلة من «المحبة» و»الحرص» تنتفي الحاجة إلى القانون، وترتفع عصا المحبة لكل من عصى، وينتهي زمن ويبدأ زمن.
لِمَ نُدفع للاختيار بين الأمن والحرية إذا كان كلاهما مصدرا للآخر؟ ففي حين يوفر الأمن الجو الصحي للحرية، فما من وسيلة تضمن الأمن كما «وسيلة الحرية» التي تكفل حق الإنسان في التعبير فتحميه من الكبت الذي يصنع الغضب والذي بدوره يحرك الثورات ويعوّم البلد على مركب القلاقل والانقسام الداخلي. الأمن يستتب عندما ترفع الحواجز وتستسلم المعوقات، عندها ترتخي القلوب بالرضا وتبقى مع اختلافها، راضية بكرامة كفلتها لها حرياتها.
ذاك دور الحكومات الديمقراطية في الدول المتقدمة، فهي لا تخرج عن طورها ولا «تتنرفز» و»ترقع» المواطنين على رؤوسهم. الحكومات في الديمقراطيات المتقدمة هي التي تُرقع على الرؤوس وبطيب خاطر منها، فذاك ثمن لا يذكر تدفعه تلك الحكومات لشراء الرضا العام والهدوء النفسي المجتمعي اللذين لا يضمنهما سوى الحرية الكاملة والمطلقة للرأي وللتعبير عنه. تريدون للشعب أن يهدأ وللأمن أن يستتب، دعونا نتحدث يا سادة، إنه أضعف الإيمان.