نتوقع من العامة أن ينفثوا غضبهم، وأن يبثوا عنصرياتهم، وألا يتوانوا في التعبير عن تطرفاتهم بعد أي حدث جلل يصيب المجتمع، فبحكم الذوبان في بحر وسائل التواصل الاجتماعي يتشجع العامة على التعبير دون حذر، لكن الغريب هو عندما تطفح هذه العنصريات والتطرفات على ألسنة البارزين، هؤلاء الذين لربما تتضرر مصالحهم ومراكزهم من جراء تعابيرهم، إلا أن البغض في قلوبهم أقوى وأشد حتى من أقل درجات الدبلوماسية المطلوبة، فما تجد سوى الطائفية وقد نضحت والعنصرية وقد طفحت، والرائحة وقد ملأت العالم الإنترنتي بأكمله.
أحدهم كتب يطلب عدم “حلب” قضية تفجير مسجد الإمام الصادق والتي يعتقد أنها ستستغل في التعيينات العسكرية (ثم اعتذر لاحقاً عن تغريدته اعتذاراً لا يسمن ولا يغني)، وآخر كتب يدعو لإنشاء جامعة إسلامية وقنوات فضائية تدافع عن الرسول وسنّته وآله وأزواجه والصحابة و”تزيل الشبهات التي يصطنعها أعداء الإسلام عنهم”، وإلى الاهتمام بالفكر الوهابي ونشره، وهما شخصيتان معروفتان في البلد، لم تردعهما لا شهرتهما ولا مصالحهما عن الغمز والنبز ونحن في وقت حار عصيب، طبعاً هذا التلميح وهذا التصريح دعوَا إلى المزيد من التنابز الطائفي وأشعلا حواراً سيئاً من كل الأطراف يجب ألا يحصل والدماء لم تبرد والجروح لم تلتئم بعد.
في مراري توجهت إلى الرجل الوحيد الذي أعرف أنه سينتشل عقلي من الغضب، أخرجته من قيلولته، لربما كنت أصرخ على التلفون، استمع إلى النهاية ثم أتاني صوته هادئاً رحيماً يحمل كل الشفقة ولا شيء من الحقد:
النار تصهر المعادن يمكن بها فرز الذهب عن الخشاش، والناس معادن تصهرهم المحن والمصائب، فيفرز الطيب من الخبيث، وما أصاب الوطن تجربة نارية فرزت أبناءه، وكان الذهب الغالب الأعظم منه وبعض الخشاش الذين طالتهم يد العدالة. لا نبحث اليوم عن طرف ننتقم منه عما حدث لأهل الكويت، نحن نهدف إلى الإصلاح لا الانتقام، وهذا الأول يأخذ وقتا وصبرا.
الإصلاح وما يصحبه من تغيير يحتاج وعيا، والوعي يحتاج وقتا والوقت يحتاج صبرا، اليوم يوم القانون، فإذا لم يوجد قانون فأول من سيكون في خطر هو الدين، وهذا ينطبق على أصغر شؤوننا، فمثلاً لو انفلت الأمر المروري، ولو لم يعاقب من يعبر الإشارة الحمراء فسيستغل الإرهابي هذه الثغرة ويجري بسيارته على أجساد الناس. إنه القانون يحمي الدين ويحمينا، ولنتفهم تماماً بطء العملية الإصلاحية، ومطاطية القرارات الإنقاذية، فأحياناً بطؤها ومطاطيتها ينقذان أرواحاً يمكن فقدانها عند فرض حلول سريعة وصارمة.
وماذا يا والدي عمن ينشر الكره والبغضاء في صيغة رأي لا يمكن أن تصيبه يد العدالة، بل سنكون مضطرين للدفاع عن حقه في إبداء رأيه وإن احترقت قلوبنا من جراء خسة هذا الرأي؟ هنا يتجلى صبرك يا ابنتي، قال والدي، هنا مكان الحكمة والعمل الجاد الدؤوب والانتظار الطيب لحصد محصول صالح لا يتأتى سوى بذاك الانتظار.
أرى في وجه والدي انتظارا قديما وأملا جديدا، وكأنّ كل سنوات الانتظار لم تأخذ ولا قطرة من الأمل والإيمان بحقيقة التغيير، أرى في وجهه ثباتا وعزما وحلما ورأفة لم تنتقص منها الدماء التي سالت شيئا، بل إن فعلت فقد كثفت من حلمه وضاعفت من رأفته. مؤمن والدي بالقانون وبالعدالة الإلهية، وأن كليهما سيحقق المطلوب إن نحن وظفنا الأول وآمنا بالثانية بالطريقة الصحيحة.
أعود فأجتر شكواي: أريد أن أعيش في مكان آمن، أريد أن يكبر أبنائي فلا يعرفون لكلمة طائفة معنى، أريد الحرية، أريد التعايش، أريد الأمان الذي كان وما عاد، فيرد والدي، هذه أشياء ثمينة، والثمين يحتاج عملا كثيرا، إن أردتها فلا تترجيها، بل استحقيها.