يا للسذاجة، نجحوا في أن يروجوا الفكرة، “هذيل شوية بدو يبون يخربون الديرة”، تماماً كما رُوّجت فكرة مثبتة عن البدون “يقطعون جناسيهم” وعن الشيعة “ولاؤهم خارجي” وغيرها من الأفكار تجاه المغضوب عليهم، كم هو مضحك أن نعتقد أن المشكلة عرقية، “المشكلة أنهم بدو”، ليست المشكلة في حكومة غارقة في الفساد ولا المشكلة في غياب الرؤية، ولا المشكلة في ضياع القرار ولا حتى المشكلة في صراع الأقطاب، المشكلة كلها في البدو.
والحقيقة أن الترويج لهذه الفكرة العبيطة آخذ في تعميق الوضع الخرب، فنحن في كل مرة نكرر فيها هذه الجملة نقسم أنفسنا أكثر، نغيب ونفرق ونعزل، ليس “الآخر” فقط ولكن أنفسنا كذلك، أقنعونا أن المشكلة في سكان “المناطق الخارجية”، لأنهم عنيفون ورجعيون و”ما عندهم ذرابة”، يريدون أن يودوا بالبلد إلى زمن الصراع العشائري، فوجدوا ضالتهم في الإسلاميين، وكان التحالف الذي سيهدم البلد، وما إن تطايرت الفكرة في الهواء حتى أمسكنا بها وتداولناها، علكناها علكاً حتى اختفى طعمها تماماً، دون أن نفكر فيها حقيقة، دون أن ندورها في عقولنا لحظة. ما الذي دفع الشباب اليوم ليصبحوا “هادمين ورجعيين”؟ ما الذي أقسرهم على الخروج في الشوارع متجاورين وشباباً من التحالف والمنبر والتقدمي؟ ولمَ نرفض الاعتراف بدور هؤلاء “الحضر” في هذا الخروج؟ أم أن “عيالنا” لا يفعلونها، وإن فعلوها فمغرر بهم مضحوك على ذقونهم؟
لمَ لا يريد أحد ما في الحكومة والقيادة أن يواجه المشكلة الحقيقية؟ الشباب الصغار خرج وخرب وكسر في منطقة صباح الناصر؟ لمَ؟ لأنهم يتبعون قيادات فاسدة؟ ليس لديهم موضوع حقيقي وخطير تستمعون له؟ هل التفتم سابقاً إلى ما يريدون قوله قبل أن يلجأ هؤلاء إلى أسلوب الخروج وحرق الزبالة وإطارات السيارات التي أمعنتم حزنكم عليها؟ وليكن أنهم اتبعوا قيادة فاسدة، هل اتبعوها قبلية فقط؟ هذا هو كل الدافع؟ ليس هناك فساد وخراب وعزل وتغييب ووساطات ومحاباة وتقسيم وتفريق جعلت هذا الشباب يشعر بالانعزال وقلة الحيلة حتى تبع أي قيادة تجرأت أن تتكلم ولو كانت فاسدة؟ ألم تغب كل مؤسسات الدولة حتى ما عادت متوافرة اليوم سوى مؤسسة القبيلة والطائفة يلجأ إليها من يريد أن يتمم أي معاملة، حتى إن كانت استخراج إجازة قيادة؟ صدقاً، هل سألتم أنفسكم، لو كانت أمور البلد مستقرة، القانون مطبق عدلاً على الجميع، والإجراءات والتوجهات تجمع أبناء البلد ولا تفرقهم، والخطط والقرارات تنفذ فورياً فتوفر للشباب فرص عمل وأمل، لو أن كل شيء أو بعض هذا كان متحققاً، أكان الشباب يخرج “فيحرق زبالة” ويتعرض للضرب والتنكيل والاعتقال، ويتبع قيادة لها تاريخ يدينها؟ صنيعة من هذه الكيكة المحروقة التي نتنفس دخانها الآن؟
نظفي نفسك يا حكومة يحتر عدوك فيك، واستقري يا أسرة يستقر معك البلد، أما أن يشيع الفساد ويسود الصراع وتريدون للشباب أن يهدأ ويمشي خلفكم كالقطيع فهذا زمن لا يستوعب هكذا مطلب، وها هي أعداد المعتقلين تتزايد، والعنف يتصاعد، و”الداخلية” تنفي، والإشاعات تتطاير، والأسطوانة تتكرر “بدو، ما في فايدة”. مريح جداً أن نلقي باللائمة على عرق ما، نحن طيبون وهم المخربون، نحن مسالمون وهم العنيفون، فكالعادة، عندما يزيد الخراب تبحث الحكومات عن كبش فداء، ترميه وسط الناس ليمسكوا به ويقطعوا صوفه وينتقموا لظروف معيشتهم وهوانهم وشعورهم بالتفرقة والظلم منه هو، وهكذا يفرغ غلّ الناس، وتسلم الحكومة. أبناؤنا كلهم في نفس المركب، أبناء القبائل وأبناء الحضر كلّهم أبناء مدينة اليوم، مطالبهم واحدة وأحلامهم واحدة، يعيبنا أن نتنصل من مسؤولياتنا، أن نرمي بلومنا على هؤلاء الصغار، ولو ارتفع عنفهم، ولو زاد تهورهم، فنحن، الأجيال الأكبر بسكوتنا عن الخراب، نفخنا في ناره بعد أن أشعلته الحكومات المتعاقبة بسياساتها الخربة. واليوم اللوم على الشباب لأنه يتبع هذا الرمز الفاسد أو ذاك القائد المتورط؟ وهل وفرتم لهم البديل؟ هل قدمتم أي إصلاح حقيقي خلال السنوات العشر السابقة يهدّئ من روعهم وينير لهم الطريق؟
نحن بشر ولسنا قطيعاً، لا نثور فقط لأننا جياع؛ لذا من يكرر على الشباب ضرورة أن يحمدوا الله على النعمة وكأنهم شحاذون يترجون لقمتهم فإن عليه أن يراجع نفسه ومعنى كلامه، فالناس تثور اليوم على الظلم والفساد، فاقطعوا دابرهما، لتوقفوا هذا العنف الذي نغرق فيه كل يوم، وتحدّوا من قوى رموز معارضة اليوم الذين كانوا أحباب الأمس، المسألة بسيطة وواضحة تماماً، أما منهجية اليوم فهي تورطكم أكثر، وتزيد من قوى الرموز أعدائكم، وتغرقنا معكم، “معقول مو شايفين”؟
“آخر شي”:
أي نوع من البشر هذا يقف يتشفى في إهانة الآخر وفي جريان دمه؟ كيف تفرحون “بمطّاعة” تسقط على رأس إنسان على أرضكم وإن اعتقدتم بذنبه؟ متى تراكمت الأحقاد ومرضت النفوس لهذا الحد؟