مع مرور الوقت على بدء عملي المنظم الممنهج في قضية “البدون” من خلال “جمعية حقوق الإنسان” وبعدها مع “مجموعة 29″، اكتشفت سراً خطيراً حول طبيعة الخطة الحكومية في التعامل مع القضية، وإن لم أفهم تحديداً طريقة التنفيذ، فتعقيد التنفيذ هو في الواقع بحد ذاته جزء من الخطة المحكمة. تلك هي خطة الدوائر، بسيطة وقديمة قدم الزمان، ولشدة بساطتها وعفوية منطقها لا تكاد تراها خطة أصلاً. ببساطة هي كالتالي: كلما حاول “بدون” أن ينجز معاملة أو يستصدر ورقة أو يغلق باباً أو يصفي حساباً أو يتمم عملاً، أدخلوه في دائرة، وتلك تتشابك مع دوائر غيرها، فيدور “البدون” فيها ويدور، حتى لا يعود يتذكر من أين بدأ؟ ولا إلى أين ينتهي؟ ولا الغرض الأساسي الذي بدأ منه أصلاً.
وضع سيريالي كأنه من أضغاث الأحلام. تخيل مثلاً، والدك عسكرياً استشهد في الحرب، لك عم أسير وآخر شهيد، أوراقك تقول إن عائلتك موجودة في الكويت قبل 1950. وفي ذات يوم أسود، تتجه إلى اللجنة المركزية (كانت هي العاملة قبل إيقافها وإشهار الجهاز المركزي في 2010)، لتتمم معاملة استصدار شهادة ميلاد لمولودك مثلاً. تكتشف يومها أن عليك قيداً أمنياً لأنك… جيش شعبي. تحلف يمين “طلاق بالثلاثة” أن روحك معجونة بتراب الوطن الذي تعطر بدم والدك الشهيد، لكن، لا فائدة، فالكمبيوتر يقول “قيداً أمنياً”، يعني نكذّب الكمبيوتر ونصدق قبر والدك؟ “طيب والحل”؟ “تحيلونني إلى القضاء”؟ لا طبعاً، نعلقك بالقيد من رقبتك لا أنت مذنب ولا أنت بريء، طيب وشهادة ميلاد الولد، وتجديد إجازة القيادة، وهويتي؟ اذهب فعدل وضعك، كيف؟ اشتر جوازاً يا أخي وخلصنا، من أين؟ المكاتب تملأ البلد!
فجأة تجد نفسك ليبيرياً أصلياً، ليبيرياً معتبراً لمدة خمس سنوات. وبعدين؟ تنقضي السنوات الخمس، فإذا بمولودك في سن الدراسة. تجر غترتك خلفك إلى الجهاز المركزي، آمالك تسبقك إلى المؤسسة الجديدة التي أتت لتغير وتعدل ثم تنهي المشكلة تماماً. تقول لهم انتهت صلاحية الجواز الليبيري، لم أعد “أصلياً”، أصبحت تقليداً بائداً، فيقولون لك، ويا سبحان من قدرهم عليك، ليست تلك بمشكلتنا، فأنت لست “بدون” بعد الآن، أنت ليبيري، لكن إذا أردت أن تسجل ابنك في المدرسة، فما عليك إلا أن توقع هذا التعهد بتعديل وضعك، أي شراء جواز جديد “بالمفتشر”. لا، ترفض أن تفعلها مجدداً، المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، إلا أن الجهاز “سيكفر سيئاتك” حتى تذهب صاغراً لتشتري جوازاً إندونيسياً هذه المرة! وبعدين الوالدة تود أن تحج، وأختك على أبواب الزواج، والصغير يتطلع إليك بعينين كبيرتين، فتتذكر أن الرحلة أساساً بدأت بولادته وأن الموضوع كان حول تسجيله في المدرسة، وأنك تدور في دوائر مغلقة حتى نسيت اسمك وسبب قدومك إلى الجحيم هذا بقدميك وما أمروك أن تفعل في الخطوة القادمة. دوار يأخذك وغضبة تترجرج في ثنايا نفسك، تمسك بزمامهما وتعود إلى دائرتك، تدور وتدور، علّ الصغير يجد كرسيه قبل أن تسقط أنت قهراً في ساقيتك.
هل جربتم أعزائي القراء هذه الدائرة؟ أنا جربتها، و”مجموعة 29″، على الورق، ناظرتها في الإجراءات وتابعتها في الخفاء، فدارت الدنيا بي، وانطبقت الدوائر على أنفاسي حتى ذهب الهواء وبقي الألم المخنوق. ما سبق مثال واحد لاستصدار ورقة واحدة، تخيلوا عدد الأوراق التي نستصدرها في أيامنا وتخيلوا عدد الدوائر التي ينحشر فيها أهل بلدنا من “البدون”، حتى لتأخذ شهادة الميلاد، والتي لا يسمح باستصدارها أصلاً إلا بعد بلوغ الطفل ست سنوات، أكثر من سنة وبإجراءات في غاية التعقيد. وقبل أن تدور ذات الجمل والكليشيهات في الرؤوس، اسمحوا لي أن أبادر فأقول أن يكونوا تسللوا، أو يكونوا ممن أخفوا هوياتهم الأصلية، أو يكونوا ضحية تعسف ومحسوبية وظلم وعنصرية كما أعتقد الغالبية منهم، فالمهم اليوم هو الصغير ذو العينين الكبيرتين، أن يأكل ويتدفأ ويتعلم، أن يشعر بحنان الكبار وأمان الأرض واهتمام المسؤولين، أن يلعب لا يشقى، وأن يضحك لا ينوح، وأن يرضى لا يقهر. لا نفهم في “مجموعة 29” غير هذا المنطق: طفل صغير، إذن يأتي معه صندوقه الإنساني: فيه كتب ولعب وأقلام وملابس وطعام وحلوى وحنان وحب وابتسامات وأحضان وقبلات، هذا هو المنطق الوحيد الذي نفهمه، وما لم نفهمه من أسى وألم وانتهاك وثّقناه هاهنا، علّ الغشاوة تزول، وتعود الصناديق إلى أصحابها الصغار.
إليكم تقرير “مجموعة 29” لرصد وتوثيق انتهاكات حقوق الأطفال “البدون”: