سألته لماذا تعتقد أنها الحقيقة؟ قال لأنها ذكرت في القرآن، قلت ولماذا تعتقد أنها ذكرت في القرآن؟ قال، لأنها الحقيقة. تدور معظم العقول في العالم الإسلامي في دوائر مغلقة لا يوجد فيها منفذ إلى العالم الخارجي وثقافاته المختلفة، كما لا تسمح بدخول أي تفكير نقدي يسائل دوران الدائرة ويستفسر عن انغلاقها. يلتف الخوف على الأعناق فلا يترك فرصة لمناقشة أسباب الاعتقاد والإيمان، وعلى الرغم من أن تحدي الفكرة والسعي خلف فهم منطقها ليس بالضرورة تحدي الإيمان بها، فإن العقل الإسلامي المعاصر يعتقد أن محاولة فهم أو مساءلة أي وارد ديني إنما هي في حقيقتها خروج عن الدين يورد الهلاك.
يقول د. نصر حامد أبوزيد في كتابه “دوائر الخوف”: “بالتدريج تحول الفكر الإسلامي من أن يكون (صياغة) للواقع وترشيداً له إلى أن يكون (تبريراً) لهذا الواقع بمنحه غطاءً أيديولوجياً ومشروعية دينية. هيمن نمط “العارف المطيع” في مجال الفكر والثقافة والأدب في القرن الخامس تقريباً، وتزايد دوره في تحويل الفكر إلى غطاء يحجب عن الوعي آليات السلطة في السيطرة والهيمنة والاستغلال والعنف”. (ص 168). يستكمل الدكتور قائلاً: “صارت علوم الفلسفة والمنطق من المحرمات، فمنع تعلمها وتعليمها، وانعكس موقف التبعية للماضي، والإذعان لأقاويل القدماء دون فحص أو نقاش، إلى نوع من (الإذعان) و(التسليم) و(الطاعة) لكل سلطة تتدثر بعباءة القديم أو تحتمي بمظلة التراث. وفي هذا الإطار يصبح المعيار الوحيد للإنسان هو (الطاعة)، وهو معيار لا يترك مجالاً لإنسانية خارج المعيار، سواء للمسلم فضلاً عن غير المسلم”. (ص169).
لن تبدو الصورة أكثر وضوحاً منها اليوم للدين الذي يستخدم لتبرير الواقع ومنحه غطاءً حديدياً لا ينفذ فيه تشكيك أو مساءلة، فالدين يستخدم لتغطية حلم السيطرة الشاملة الأبدية على العالم لـ”الإخوان المسلمين”، وهو يغطي التفرد بالسلطة والرغبة في تسيير البشر كما في نظام ولاية الفقيه في إيران، وهو يستر التخلف التقاليدي البائد الدافع إلى منع النساء من القيادة من بين آلاف الممانعات الأخرى التي تحجب المرأة عن الحياة وتحجب الحياة عنها في السعودية، وهو يحمي قوانين تسعى إلى السيطرة المريضة وميكنة المجتمع كما في حال قوانين منع تجنيس غير المسلمين، ومنع الدراسة المشتركة، ومعاقبة التشبه بالجنس الآخر في الكويت. كما أن الملاحظ اليوم أن النمط المهين عندنا هو نمط “غير العارف المطيع”، هذا الذي يعترف بعدم معرفته، ولا يبتغي من الجهل فكاكاً، فنجده يتعلق بأهداب فكرة “للدين علماؤه وهم وحدهم من يخوضون في شؤونه”. وعلى قدر فظاظة الفكرة وإهانتها للعقل الإنساني، على قدر ما يتعلق الناس بها تخلصاً من عبء التفكير وتحدي النفس والمعتقدات المتوارثة.
في الهند، لا تنفصل الحياة الدينية الهندوسية والبراهمانية عن الحياة المجتمعية بكل أبعادها، لدرجة أنه لا توجد في اللغة السانسكريتية، أو سائر اللغات الهندية في الواقع، ترجمة مباشرة لكلمة دين، وذلك لانعدام الحاجة إلى مثل هذه الترجمة، فالدين يختلط بالحياة ويتعلق بها من كل أطرافها لدرجة تنتفي معها الحاجة إلى الفصل اللغوي بين الدين والحياة. إلا أن هاتين الديانتين الفلسفيتين تقومان على مبدأ التفكير العميق الشخصي لكل إنسان، فبما أن الدين جزء عميق من حياة الفرد، فإن فهمه والتوصل إلى الحقيقة العظمى (البراهمن) المبتغاة من الدين لهي جميعاً مسؤوليات الفرد الشخصية التي لا يمكن إلقاؤها على أكتاف الآخرين.
في العالم العربي الإسلامي يتداخل الدين والحياة بنمطية معقدة متشابكة، يقرر الدين للإنسان مأكله ومشربه ومعاشه وزواجه وحتى أخص تفاصيل حياته، ومع ذلك، فالمطلوب من “المؤمن الحق” ألا يفكر لنفسه، حيث تشجعه الأيديولوجية الدينية الحالية على إيجاد متبوع يسترشد بهديه كما يضع أوزاره وخطاياه على رأسه. السؤال هو، كيف يعيش الإنسان تفاصيل حياته من أهمها إلى أسخفها دون أن يكون له رأي شخصي في المنهج الذي يتبعه؟ ليس المطلوب فقط “السماح” للإنسان المسلم بالتفكير، ولكن تشجيعه فعلياً على تمحيص ما يتبعه وإيجاد المنطقية فيه، فعندما تتواءم الأفعال ومنطقيتها، عندما تتلاقى التبريرات العادلة والأفعال، عندما تسند الحجج الاختيارات، تصبح الحياة أكثر جمالاً ووضوحاً وأقل نفاقاً، هذا النفاق الذي تعيشه الأمة الإسلامية منذ القرن الخامس الهجري إلى يومنا هذا.
من حق كل فرد منّا، علا شأنه أو صغر، تعمق علمه أو ضحل، أن يفكر ويقرر لنفسه، أن يتساءل ويتشكك، وأن يكون له رأي في كل الشؤون الدينية من أبسطها إلى أعمقها، فهي الشؤون التي تتدخل في كل حياته ويعيش حياته من خلالها. لابد أن نفيق من هذا الكسل الفكري والرعب الأزلي حتى نبدأ الحياة.