أكتب مقالي صبيحة اليوم الذي سنخرج وقت مسائه في الكويت في اعتصام من أجل حق المرأة في حرية الاختيار. نعم، ما زلنا في هذا النصف من العالم نخرج مطالبات بحق الاختيار فيما يخص أكبر وأهم قرارات حياتنا وحتى أصغرها وأبسطها، حيث لا يوجد أي بسيط أو سهل أو ميسر في حياة المرأة أو فيما يخص اختياراتها أو أسلوب معيشتها.
جسد المرأة ثورة، ملبسها اعتصام، ومظهرها بيان رقم واحد، يقلب الموازين ويعطي المؤشرات ويخلق أيديولوجية كاملة لمجتمع بأكمله.
من ذاك الذي يريد أن يتحمل عبئاً كهذا على صدره وأن يَحمل هكذا ثقل على كتفيه؟ بأي حق يضع المجتمع عبء شرفه وسمعته الهلاميين، ثقل محافظته وتدينه، وهم صورته “النظيفة” على ظهر المرأة، تاركاً الرجل يسرح ويمرح في حياته الخاصة كما العامة، لا تعيبه رعونة إن لم تزده ألقاً في الواقع، لا يحد من فرصه عيب أو حرام، لا تكبل حياته فكرة سمعة أو شرف، ولا يقيده ولي أو وصي لينطلق حراً في اختياراته وفي تشكيل حياته؟
يعيش الفتى لفترة من حياته مكبلاً بوصاية الأم والأب، لينطلق في مرحلة ما بعد البلوغ ليشكل حياته ويصنع قراراته. لا تختبر المرأة فعلياً هذه التجربة مطلقاً مهما بلغ من تحرر محيطها، ذلك ان الوصاية مجتمعية، وأحياناً، مثلما هو حادث في مجتمعاتنا، هي قانونية، فإن حررها أهلها، كبلها المجتمع بوصايته، وإن أنصفها رجال عائلتها، ظلمها القانون الذكوري الذي لا يرى فيها إنساناً بالغً أبداً ولو بلغت من العمر عتياً.
هي تجربة غريبة فعلاً أن تعيش حياتك من المهد إلى اللحد وأنت موصى عليك، وأنت ملك لغيرك، للأسرة وللعادات والتقاليد والقراءات الدينية والوصاية الذكورية، تخرج من قيد، تدخل في آخر، تفلت من سجن، يَزج بك محيطك في آخر أكبر منه.
هي تجربة لم ولن يختبرها الرجال أبداً وهم يقفون على زاوية متضادة تماماً من الحياة، وهم يشاهدون مناظرها بأعين مختلفة، وهم يستطعمون ظروفها وملابساتها من براعم تذوقية أخرى، براعم القوة والسيطرة والوصاية.
نخرج الليلة من أجل حرية اختيار بسيطة من الصعب تخيل أنها ما زالت محجوبة عن أصحابها، نخرج من أجل حرية اختيار المظهر. تتعذب المسلمات الهنديات بحجابهن اليوم في الهند، تلك البلد التي طالما تشدقنا بعلمانيتها، مقارنين تقدمها واستقرارها النسبي بذاك الذي لجارتها، أفغانستان، التي عانت الأمرين من تمسكها بالسياسة الدينية بعد انفصالها عن “الهند البريطانية” في 1947.
اليوم، وبإدارة مخيفة ومتعالية من رئيس وزراء الهند، ناريندرا مودي، تُشحن البلد بضراوة ضد المسلمين، وكالعادة، لا يظهر هذا الشحن والعداء بأوضح صوره إلا تجاه المرأة، ليصبح جسدها ساحة معركة، ويصبح مظهرها إعلان حرب، لتُرش الهنديات المسلمات المحجبات بالمياه في الشوارع ويُمنعن من دخول المدارس. حتى الحروب السياسية الدينية التي يخلقها الرجل، تدفع ثمنها مضاعفاً المرأة.
أن تجبر امرأة على خلع الحجاب هو الوجه الثاني لعملة القمع التي تحمل على وجهها الأول مشهد إجبار المرأة على لبس الحجاب. مظهر المرأة ملكها، جانب من جوانب حياتها، مؤثر من مؤثرات معيشتها، هو ليس مقياساً لشرف الرجل ولا يجب أن يؤثر على سمعته، ولا علاقة للرجل به لا من قريب ولا من بعيد.
المرأة التي “تخطئ” أياً كان معنى هذه الكلمة الهلامية، هي تماماً مثل الرجل الذي يخطئ، هي بمعية القانون، بمعية رد الفعل السلمي المجتمعي وأخيراً بمعية الحكم الإلهي. فمثلما يتحمل الرجل التبعات القانونية والأحكام المجتمعية السلمية والتبعات الأخروية للتصرفات الدنيوية، تلك يجب أن تكون ذات حمول المرأة، لا أكثر ولا أقل.
أما شرف الرجل فهو أولى بالمحافظة عليه كما هو قائم على تلويثه بلا حسيب ولا رقيب منذ فجر ظهور الإنسان “العاقل” على سطح الأرض، وأما سمعة العائلة فهذا حكم أسطوري لا وجود له، فالعائلة أفراد منفصلون كل يتحمل وزره، وأما المظهر التديني المجتمعي فهو اختياري لمن يريد أن يساهم فيه، ومن يختار الخروج عنه يبقى حقه الذي يتحمل تبعاته التي، مرة أخرى، يجب أن تبقى سلمية دون أذى أو قمع أو تهديد.
وعلى الطرف الآخر، لمن يدَّعون أن الحجاب والنقاب هما شكلان من أشكال البرمجة وأنهما لا يحتملان فعلياً فكرة الاختيار أقول إن كل مناحي حياتنا مبرمجة، والكثير من اختياراتنا نأتيها قي الواقع لاعتقادنا ألا حق أو فرصة لنا في اختيار مضادها.
من تتخذ مظهراً متحرراً لأنها تعتقد أنها ترسل رسالة عن حرية المرأة وتحرر جسدها هي كذلك معبئة بأيديولوجيا تبرمجت عليها. كل خياراتنا الأخلاقية، العقائدية، المبدئية والحياتية هي في الواقع نتاج بيولوجيتنا وتركيبنا الجيني، نتاج محيطنا ونتاج حالتنا الاقتصادية، مما يجعل مفهوم الحرية المطلقة مجرد وهم، ولربما الوهم الأكبر والكذبة الأخطر في حياتنا البشرية.
إذا استوعبنا هذه الحقيقة وأفسحنا المجال للتحرك “الحر” في إطار قيود هذه الحقيقة التي لا مفر منها، سنعيش بدرجة من “وهم” الحرية تجعل الحياة أكثر عدالة ومتعة وغنى.
المرأة ليست قضية مستمرة، ليست خطة سياسية ولا إعلانا أيديولوجيا ثوريا. المرأة إنسان تحتاج في المحصلة لأن تعيش وتستمتع بهذه الحياة الوحيدة المتاحة لها.
نخرج اليوم بطلب بسيط جداً، وبمخاطرة أن يبدو ساذج رغم عمقه وأهميته: ارفعوا أياديكم ووصاياتكم السياسية والدينية عن المرأة، هي لا تريد أن تكون أيقونة أو رمز ثورة أو شرفاً أو سمعة أو واجهة لمجتمع أو اسماً يمثل قبيلة أو كياناً يتسبب في الحروب أو إعلان حرب دينية أو واجهة لامعة عقائدية، هي تريد أن تكون إنسانة حرة تتحمل تبعات قراراتها، فقط دعوها تعيش.