ستكون عاداتنا الدينية العربية في الفترة المقبلة هي أفضل وأسوأ ما قد يخدمنا في مكافحة فيروس كورونا. على سبيل المثال، الوضوء خمساً كل يوم ربما سيوفر فرصة أكبر لتنظيف اليدين والأجزاء الأخرى من الجسد، وتوخي الحذر من النجاسات -وإن بالمفهوم الديني- سيدفع كذلك باتجاه مزيد من التنظيف والتعقيم. الفرص التأملية الروحانية الكثيرة طوال اليوم، من خلال المرات الخمس للصلاة، والفرص المتواترة للدعاء، ستكون مدعاة راحة نفسية ومحفزات إيجابية في اتجاه الشعور بشيء من الأمان. هذا وسيدفع الاتجاه إلى إيكال الأمور كلها للخالق والقبول بكل قضائه إلى نوع من الهدوء وإلى التحفيز على الانتظار غير المذعور الذي ربما هو أشد ما تحتاج البشرية حتى يأخذ هذا الفيروس وقته ويغادر.
ولربما سيكون هذا الانتظار هو كذلك أحد أسوأ ما قد يقف أمامنا في مكافحة الفيروس، من حيث الاعتماد أكثر على مشيئة الخالق عوضاً عن البحث الحثيث عن الدواء، فالشعور بالأمان قد يتسبب في تقاعس غير محمود في الأوقات العصيبة أحياناً، إلا أن هذه الجزئية هي أقل ما يدعو للقلق؛ فالغرب «الكافر» في طريقه للبحث الحثيث عن الحلول، ولربما كل المطلوب منا حالياً -حسب ما تسري المزحة المنتشرة- هو أن نتوقف عن الدعاء عليهم بالويل والثبور وعظائم الأمور من على منابر المساجد لحين اكتشافهم الدواء. ربما هي عاداتنا الاجتماعية في الواقع التي قد تتصلب كمصادر للقلق في وجوهنا أكثر من أي شيء آخر. مثلاً، ما زالت عادة المصافحة بالأيدي وتبادل القبل عادة مهمة اجتماعياً لم تنجح كل المخاوف الشديدة في تغييرها، فالمعظم يرى في الامتناع عنها نوعاً من المبالغة قد تصل إلى ضرب من إهانة الآخرين. هناك كذلك عادات التزاور الكثيرة التي من الأفضل تقليلها أو تصغير عدد المشاركين فيها حالياً، وهو تقليل أراه آخذاً في الحدوث في الواقع، وإن بكثير من المقاومة والتذمر.
إلا أن أعظم ما قد يواجهنا فعلياً هو طريقة تعاملنا مع الإجراءات الاحترازية ومدى تجاوبنا معها في العموم. لقد خرجت تكهنات في بداية انتشار الفيروس إلى أنه سيكون الأسرع انتشاراً في الدول «النامية» بسبب من مقاومة الشعوب هذه لأوامر حكوماتها الاحترازية، فنحن لم نعتد فعلياً الانصياع التام للقوانين والإجراءات، حيث دوماً ما تربض في تقديرنا مساحة مطاطية نتجول فيها حين نأتي للتعامل مع هذه القوانين والإجراءات. من الممكن جداً، بل والمعتاد مثلاً، اختراق الإشارة المرورية وهي صفراء، أو على وشك التغير للحمراء، ومن الممكن جداً قيادة السيارة بعض المسافة في حارات الأمان، ومن المعتاد جداً التملص من ساعات العمل بالذهاب المتأخر أو الخروج المبكر بعض الشي. السماء لن تقع علينا.. هذا هو شعارنا في الحياة حين نميع التزامنا بواجباتنا وقوانيننا.
وعليه، حين تفرض الدول الغربية على مواطنيها العائدين من السفر مثلاً فترة حجر منزلي ذاتي، في الغالب سيلتزم هؤلاء بها حرفياً، حيث يتجلى هذا الالتزام كثقافة عميقة مبنية على شعور متأصل باحترام الشارع العام وبالتشارك في المسؤولية العامة في شتى مناحي الحياة. عند هؤلاء، المسؤولية المجتمعية العامة أكبر من العيب واللايجوز والعبادة المجتمعية للعادات، فالعادات هذه يمكنها أن توضع على الانتظار إلى حين تغير الأحوال واستئناف الحياة لاعتيادية ظروفها. في محيطنا الاجتماعي، العادات تأخذ أولوية عن القانون والإجراءات وحتى المنطق البحت، والقصص التي تشهد على ذلك لا تنتهي، حيث كان آخر ما سمعت في محيطي هو خبر عن عائلة يصر الأبوان فيها، العائدان من سفر لإحدى الدول المصابة بكثافة، على زيارة أبنائهم لهم حتى قبل انتهاء فترة الحجر الكاملة عليهما، هذان الأبوان بالتأكيد يحبان أبناءهما حباً لا يقبل التشكيك، إلا أن الثقافة السائدة تدفع بهم للاستخفاف بالأمر الصادر ومصادرة آخر ثلاثة أيام من حجرهم، «لن تقع علينا السماء»، غير واعين بأنه في هذه الأيام الثلاثة قد يظهر، لا قدر الله، ما قد يهدد أسرتهما بأكملها.
لا يقف العيب والشعور بالواجب عائقاً أمام الغربيين لوقاية أنفسهم، أما في مجتمعاتنا المزروعة عميقاً في أنظمة عاداتية صارمة، فحتى الكورونا تقف عاجزة أمام الإيقاف المؤقت لهذه العادات، وهذا أكثر ما أعتقده مهدداً للإجراءات الوقائية التي تحاول الدول جاهدة تطبيقها. إنه زمن جديد ودرس مخيف، ونحن لا نزال صارمين حيث يجب أن نتخفف، ومتخففين حيث يجب أن نلتزم ونتعصب، لربما تعلمنا هذه التجربة ما يخفف من صرامتنا العاداتية ويشد من مطاطيتنا القانونية.