خلاط

كانت الدكتورة نايلة طبارة في إحدى جلسات قمة التنوع الديني والروحـــي الثانـــــية (موضوع المقال الماضي) التي أتت كجـــــزء من «مشـــروع تعـــــزيز التماسك الاجتماعي في المنطقة العربية» الخاص ببرنامج الأمم المتحــدة الإنمــائي UNDP، طرحت سؤالاً مهماً ومفصلياً: كيف نعترف بالتنوع دون تطييف المجتمـــع؟ هذا الســؤال تحـــديداً معــقد وعصي على الإجابة، فالاعتراف بالتنوع في مجتماعتنا دومـــاً ما يأخذ بعــــداً عنصــرياً، يتشــــدد من خــــلاله الأفـراد لانتـــمـــاءاتهم ويتصـــارعون من أجـــل إعلاء كلمة هذا الانتماء أو سلطته أو ظهوره أو سمعته، مما يحول التنوع الإيجابي إلى سلبي.
في العموم، نحن شعوب تعرف الجلوس في صفوف متتابعة من الأمام إلى الخلف وليس من اليمين إلى اليسار، أي أننا نتموضع في حياتنا بوضعية طلبتنا في مدارسهم، في مواضع بعضها خلف بعض لا جنب إلى جنب، نترتب بعضنا في المقدمة والآخر في المؤخرة، دون فرصة أن نصطف جنباً إلى جنب هوياتياً، لذا تصعب علينا فكرة قبول «الآخر» بسلطة وحقوق متساوية، فنحن نعنونه «آخر» في كل الأحوال، قد نقبله كتابع، كضيف يجب أن يلزم حدوده، كآو عليه أن يدفع الجزية، أما أن يكون فرداً مكتمل الأهلية والحقوق في مجتمع هو فيه أقلية عددية أو عرقية أو سياسية أو بالأخص دينية، فهذا هدف صعب التحقيق.
تحدثت الدكتورة نايلة عن صورة من صور هذا التعقيد التنوعي للمجتمع، ألا وهي صورة إعلاء طرح ديني موحد على المشهد العام دون غيره، وذلك عن طريق بث المواد المرئية والمسموعة لدين أوحد وباستمرار، وتمييز أعياد هذا الدين ومناسباته دون غيره، ونشر الكتب الدينية الخاصة بهذا الدين دون غيره، وتدريس عقائد هذا الدين دون غيره، والانتصار اللغوي لمفرداته دون غيره، وغيرها من صور صبغ المشهد العام بصبغة واحدة.
كنت سابقاً قد انتقدت إقحام وزارة الداخلية في الكويت مثلاً لدعاء إسلامي في بداية فيديو توجيهي حول المرور، والذي بثته الوزارة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
لم يأت انتقادي بالطبع متوائماً مع الذائقة العامة، فالتوجه هو أن الدولة في معظمها إسلامية، وعليه إذاً يحق للأغلبية أن تغلب صوتها وظهورها وممارستها فوق بقية «الأقليات». هذا «التهميش الإعلامي» كما تسميه الدكتورة نايلة هو قاتل لفكرة التنوع ومعزز لمفهوم التوجه الأوحد والفئة الواحدة محمية الحقوق. هذا التوجه يخلق «ذاكرة غير معترف بها»، حسب تعبير الدكتورة، وهي ذاكرة تعذب أصحابها وتقصيهم وتعزلهم عن مجتمعهم، خالقة منهم أقلية خائفة في أفضل الظروف وغاضبة مستعرة في الأسوأ، جمر أسفل الرماد خلالها كلها.
لا يعني التنوع إنكار الهوية أو التملص من مظاهرها أو حتى الامتناع عن ممارسة طقوسها، التعبير عن المظاهر وممارسة الطقوس كلها من مشارب الإعلان الحر عن الهوية، والذي هو حق أساسي يجب أن تحفظه الدولة المدنية ومنظومة المبادئ الإنسانية التي تتبعها هذه الدولة. إلا أن الإقرار بالهوية والاعتزاز بها لا يعنيان كذلك قمع الآخر وإعلاء صوت الأغلبية على الأقلية وصبغ المجتمع كله بصبغة هذه الأغلبية حتى لا تعود المفردات سوى مفرداتها، والإعلام سوى إعلامها، والكتب سوى كتبها، والأعياد سوى أعيادها، والطابع العام بمجمله لها دون غيرها.
بلا شك، درجة من هذا التغليب ستتحقق بطبيعة حال أن الأكثرية في الدولة لهم انتماء أو معتقد موحد، إلا أن هذا التغليب لا يجب أن يأخذ طابعاً قانونياً أو إجرائياً، ولا يجب أن يكون مصدره الحكومة أو مؤسساتها، ولا يجب أن يصدر عن وزارة في الدولة أو أن يتعزز من خلال مدارسها أو أن تنص عليه قوانينها أو أن تلمح إليه منهاجياتها الإدارية.
هذا التغليب سيخـــلقـــه المجـــتمع، وسيعززه بعدد الأفراد المنتمين إليه دون الحاجة إلى تدخل من الدولة أو قوانينها، وإذا كان ولا بد لها أن تتدخل فذلك لحماية الأقلية وتعزيز حقوقها ورفع مستوى الوعي عند الشعب، لضم هذه الأقلية وإشراكها في المجتمع نفسياً ووجدانياً ومشاركتها احتفاءها بهويتها.
إذا كان المجتمع سيميل عموماً إلى التمييز وسيتكتل بما يهدد التنوع والتعايش، فدور الدولة وحكومتها هو المحافظة على التوازن وحفظ الحقوق والحريات ونشر الوعي الذي من شأنه إذابة التكتل ودمج المذاقات المختلفة. هذا يعني، ولكي يتحقق التنوع والتعايش وفيما إذا كان الشعب يفصل ويصنف، فالحكومة يجب ولا بد..أن «تضع في الخلاط».