خطر الفناء

يبقى للعنف وجود وسمة في كل المجتمعات البشرية، فثنائية الخير والشر البشرية هي ليست صبغة مجتمعية عامة فحسب بل هي صبغة فردية خاصة كذلك، يصطبغ بها كل فرد منا على حدة، حاملاً بين ضلوعه خيره وشره، متساويين في القوة، متضادين في الاتجاه.

يؤمن الفكر الليبرالي أنه وفي حين قد تكون للخير والشر قوة متقاربة في النفس البشرية، إلا أن مقدارهما مختلف، فالخير مقداره أكبر في نفس الإنسان، مما يمكنه من الاقتراب من الاختيارات الأكثر رحمة وعدالة. أحياناً يختل هذا الميزان في نفوس بعض البشر، فيغلب الشر الخير في نفوسهم، فيختارون طرقاً أنانية تعلي مصلحتهم على حساب مصالح الآخرين وأحياناً حيواتهم. علماء اليوم يعتقدون أن الشر ما هو إلا خلل هرموني في الإنسان، وبغض النظر عن مدى صحة هذه النظرية، ستبقى الحالات الفردية للشر استثنائية، وكما الأمراض الإنسانية المتعددة، جزء لا يتجزأ من التكوين الإنساني.

لا يتطور الوضع لدرجة الخطر المحدق إلا عندما يصبح الشر سمة عامة، كوباء ينتشر سريعاً بين أفراد المجتمع الواحد، وهذا الشر، لكي يقوى وينتشر، يتخذ من جوانب البشر الحياتية لاستمراره مداداً، فيقوى بالرغبة في المال، بالتفاخر بالعائلة والقبيلة، بالشهوة عموماً سواء كانت إلى شيء مادي أو إلى إنسان آخر، وبالتشدد في العقيدة والروحانيات. ولأن الشر غريزة بشرية، فإن السلاح الأول لمحاربة هذا الشر هو التثقيف والتهذيب: تثقيف النفس بكيفية مقاومة الشر وبالفائدة العامة بعيدة المدى لدحضه، وتهذيبها لتتواضع وترق وتتواصل مع الآخرين إنسانياً انتظاراً للفوائد البعيدة للخير عوضاً عن تلك القريبة للشر.

إذا نظرنا إلى وضعنا في الكويت، نجد أننا نقذف بمجتمعنا لمراحل بدائية قل فيها التثقيف وانتفى معها التهذيب، فكبر بغيابهما الشر وترعرع. تحضرني تلك الفكرة بكل ترويعها وأنا أقرأ خبر طعن المغرد حمد النقي المتهم بالإساءة إلى الرسول وآل بيته وذلك في في سجنه يوم الخميس الماضي بحجة أن الطاعن استفزه حديث النقي ورفضه القيام للصلاة، فقرر تأديبه ومعاقبته بيديه. في المجتمعات التي يغلب الخير فيها الشر، يستطيع الإنسان، بعقليته المثقفة المهذبة أن يدرك حقائق بسيطة: أولاً أن الجرم والخطأ نسبيان يختلف تقديرهما من إنسان لآخر، وثانياً أن إيذاء بشر، أياً كان جرمه أو خطؤه، سيتسبب في أذى قد يكون أكبر من الجرم والخطأ بحد ذاتهما. يستطيع المجتمع الذي غلب خيره شره بتهذيب وتطوير نفوس أفراده أن يجعل من معظمهم أدوات خير ورحمة وتسامح حتى مع أشد المختلفين عنهم، أما المجتمعات البدائية النفوس والفكر، فتلك يخرج أفرادها عن طوع القانون، معتقدين أن أسرتهم أو طائفتهم أو دينهم يوعزون لهم بقوة وحقوق فوق ما يمتلك الآخرون. فبأمر من الدين، كما يعتقد طاعن النقي، واستقواء بمبادئه، حق له، أي الطاعن، المعاقبة الشخصية. وفي حين يرى أفراد المجتمع المتمدن في الدين لغة تواصل بالخالق وتأكيداً لرحمته ووسيلة محبة تهذب نفوس خلقه على الأرض، يرى أفراد المجتمع الرجعي في الدين لغة تحكم ومعاقبة، وتأكيد على عقوبات الخالق التي يعتقدون أنها طوع أيديهم ليطبقوها على الأرض.

النقي ومن قبله الحبيب والمليفي وغيرهم كثيرون هم نوعية من البشر شرها يتجلى في إيذاء مشاعر الآخرين في معتقداتهم، نقدهم شتم وتعابيرهم إهانة لا يقبلها عاقل، لكن ما لا يعيه المجتمع الكويتي هو أن ما هو أخطر من هؤلاء هو ردة الفعل العامة تجاههم، ردة فعل تحمل الكثير من الخوف والكثير من العنف والكثير من الجهل مشيرة إلى غياب الوعي الحضاري لمصلحة الجهل العشائري البدائي الذي يعتمد أخذ الحق باليد.

نحن في خطر ليس بسبب حادثة طعن النقي، وليس بسبب ردة الفعل تجاه محمد المليفي، وليس بسبب تهديدات البذالي الشخصية لأفراد المجتمع، وليس بسبب إعطاء الجرائد وزناً لهذه التهديدات بنشرها، وليس بسبب حوادث الكتابات المسيئة للطوائف على الجدران، وليس بسبب الرد عليها بتكسير وتخريب مساجد الطوائف الأخرى، وليس بسبب عراك الصغار الطائفي في المدارس، وليس بسبب العنف اللفظي الديني في مجلس الأمة، ولكن بسبب كل هذه الظواهر مجتمعة، وبسبب من تكرارها المخيف وبسبب من حدتها المريعة. تلك ليست حوادث منفصلة، تلك حوادث متراكمة متصلة ومتواصلة، تتغذى على بعضها، على شرور نفوس أصحابها، وعلى رضوخ مجتمع يتراجع إلى بدائيته لها. عندما نفقد القدرة على تمييز الخطر وما هو أخطر منه، عندما نفقد القدرة على تقديم الخير على الشر والأحق على الحق، نصبح في حيز الخطر… خطر الفناء.