خرير القِرب

أن ترتفع نسبة العنف ضد النساء في العالم العربي عموما، وفي الكويت تحديدا، هذا مؤشر على مشكلة أخلاقية ونفسية عميقة تحتاج لتحليل وانتباه. هناك أسباب عدة لتفشي هذه الظاهرة المرعبة الخطرة التي تهدد سلامة البشرية بأكملها الجسدية والنفسية والأخلاقية، إلا أن لهذه الجريمة محفز مهم في العالم العربي، يرتكز على فكرة الشرف الهلامية الذي “يراق على جوانبه الدم”، هذا الشرف المحمل، بكل ثقله وضبابية فهمه وتبعاته الهائلة، على أكتاف النساء، والمعني بحمايته، بكل صعوبة إدراك معناه واستيعاب عشائرية وذكورية عمقه، الرجال، مع وجود استشكالية جسدية وهوياتية وفلسفية عميقة لمعنى الذكورة والأنوثة بحد ذاتهما.

قبل فترة تم الاعتداء على سيدة كويتية في وضح النهار، في أحد شوارع الكويت من قِبل زوجها الذي ضربها بوحشية مرضية، لم يستطع معها المارة أن يوقفوه أو يخلصوها من بين يديه. قصة هذه السيدة التي هي حلقة في سلسلة من أحداث العنف والضرب، بل والقتل التي تبدو كلها ممنهجة ضد النساء، هزت المجتمع الكويتي محدثة ضجة بين أوساط النساء، خصوصا حول مصائرهن المعلقة على حبال الشرف والسمعة، والمكبلة بقيود القراءات الدينية التي تضع المرأة في دور الرَّعِّية المستوجب عليها الطاعة، والمشرَّع ضربها في حال المخالفة والخروج عن إرادة الزوج. وعلى الرغم من التفاعل الكبير للمجتمع مع القضية استنكارا واستهجانا، إلا أن الأصوات العنيفة، العنيفة في تطرفها الديني والعاداتي، ساءلت الضحية واستنكرت عليها استثارتها لزوجها، لأي سبب كان، الذي أنزل عليها “جميل” عقابه.

وكنت قد كتبت على تويتر قائلة “المرأة ليست مِلكا للأسرة أو الزوج، لا تحمل مسؤولية شرفهم، ولا يتم تخليص العار أو تنظيف الشرف، هلامي المعنى، بواسطة جسدها أو من خلال إراقة دمها. كل واحدة وواحد مسؤول عن شرفه وسمعته، وكل واحدة وواحد لهم حق الأمن الكامل مهما ارتكبوا من خطايا أو معاص أو مخالفات. القانون هو الحَكم الأخير”. استدعت هذه التغريدة أقذع الردود من البعض من حماة الشرف والأخلاق، حيث هناك علاقة تناقضية جامحة في الأغلب بين حماية الشرف وعفة اللسان، ليهبطوا برذيل الكلام على الفكرة حماية “لجميل الأخلاق” حسب ادعائهم، ولا أدري كيف يستخدم الرذيل لحماية الجميل، ولا كيف يعطي الأخلاق فاقدها، ويدافع عن العفة فقيرها. في العموم، دوما ما تظهر بين هذه الفئة من الناس درجة من الاستحقاق مرتبطة في عمقها بالإيمان، سوءا الإيمان الديني أو الإيمان التقاليدي، دفعا بفكرة أن الدفاع عن هذه المبادئ الثمينة يبرر الوسيلة أيا كانت، بل وقد يسوغ ويبرر قذاعتها ورخصها. هناك بعض النظريات النفسية التي تشير كذلك لحالة من الاستعلاء الأخلاقي عند الإنسان المتدين بلا وعي منه، هذا الذي يعتقد أنه بكل تأكيد على طريق الحق المطلق مما يمكنه من كل وسيلة للحرب، ويبرر له كل منهجية للدفاع، ففي النهاية هو يدافع عن الحقيقة الخالصة والحق المطلق. هذا الاعتقاد بامتلاك الحق والحقيقة هو الذي يفسح المجال، في وعي المؤمن الساذج، لكل فرص المغفرة، فهو مغفور الآثام لأنه مؤمن موحد، فمهما ارتكب من معاص بلسانه أو يده، سيغفر له الخالق، كما يعتقد، بإيعاز من إيمانه وبالجهد البسيط اللاحق من الاستغفار والتوبة.

ولقد اعتدنا نحن النساء على هذه الهجمات الرخيصة، التي يعتقد بعض “الذكور” أنها العصي الأكثر إخافة والأشد تهويشا: أن يضرب هؤلاء في الشرف فيم هم يدافعون عنه، أن يشككوا في نزاهة المرأة “محل التأديب”، أن يشيروا إلى مظهرها ويلمحوا إلى عفتها، أو، وهذا الأسلوب الأكثر كوميدية وسذاجة، أن يعيبوا عليها شكلها وسنها. كل هذه القذاعة والرخص لن يغيروا شيئا من حقيقتنا نحن المطلقة التي سندافع عنها كنساء، نساء عقلا وليس جسدا فقط، كلنا جميعا عنها إلى آخر يوم في حياتنا: لسنا شرف أحد، أجسادنا لا تمثل عِرض رجل ولا تشكل حملا على كتفه. كلُّ يحمل حمولته وكلُّ مسؤول عن تصرفاته، ولو كان الموضوع “حمولة برابط الدم” لكان شرف النساء في معظمهن أسود من الحبر بما يفعله رجال عائلاتهن من خطايا أخلاقية وشرفية. قبل أن تحاسبوا نساء عائلاتكم وقبل أن تمدوا أياديكم على زوجاتكم، فكروا في خطاياكم، وفي تناقضاتكم، وتذكروا أن جيوبكم لم تعد كافية لتغطية العيوب، وأن أموال الدنيا لن تجعل من المنافق المتناقض عديم المروءة شريفا. . .أبدا.

ولأن الجريمة بالجريمة تذكر، والنضال بالنضال يُحيّا، لابد من إرسال تحية لنساء إيران الباسلات، المستمرات في ثورتهن الخلابة ضد القراءة الدينية التي جعلت من “عار” إظهار شعورهن مسوغا لقتلهن، فخرجن للشوارع وقصصن، في عارض احتجاجاتهن المتأججة، شعورهن على الملأ، وحرقن الأغطية، وصرخن أن كفى، عسى أن تصل صرخاتهن للعالم أجمع متخطية “الذكور” الأصماء إلا عن نداءات الشرف الهلامية التي لا تعلو إلا حين يكون “العدو” إمرأة ضعيفة، ينفسون فيها كبتهم، ويظهرون على جسدها معالم رجولتهم الضائعة دفاعا عن شرف هم أول من لوثه ويلوثه كل يوم.

لسنا شرف أحد، أخلاقنا لا تحتاج وصاية أو مراقبة، كل واحد يحمل قربته على رأسه، فإذا خرت، ستخر عليه وحده من دون غيره. الحمدلله أننا لا نحمل قرب الرجال، كنا لنغرق منذ زمن. وأعجبكم الكلام أم ثقل على رجولتكم المزيفة وغيرتكم الطفولية الركيكة، النساء حرات، حياتهن ملكا لهن، سلامة أجسادهن وأرواحهن هي أسمى سمات الشرف والعفة والشهامة و”الرجولة” التي ضجيتونا بها، ولا شيء مثل المساس بسلامة هذه الأجساد والأرواح يسقط شرف الرجال.