حين صدر قرار في الكويت بفتح باب الالتحاق بالخدمة العسكرية للنساء، دار حوار مستغرب على المكان والزمان، على مكان له أسبقية في تقديم وتأهيل النساء وزمان يفترض أنه تعدى كل هذه الحوارات الكلاسيكية المترهلة التي لشدة كليشيهيتها لم يعد لها أي بعد حقيقي، كأنها كلمات مسطحة بلا معنى أو طعم.
وكما هو معتاد، لم يكن المستغرب هو الطرح الذكوري من الرجال، فهذا متوقع وموجود في كل مجتمع حتى أشدها تفتحاً وتقدماً وحضارية، إنما المستغرب، رغم تكراره، هو الطرح الذكوري من بعض النساء واللواتي انحصر رأيهن في الموافقة على ما أتاه بعض الذكور من حجج غريبة على العقل والمنطق، حجج حزينة حد الفكاهة، فكاهية حد الجنون.
فمن بين أوجه الاعتراض على انضمام المرأة للخدمة العسكرية هو الخوف على عرض الرجال، حيث أعرب “أحدهم” عن قلقه من أن يتم اغتصاب العسكريات إذا ما قامت حرب.
هذا “الأحدهم” لم يبد حتى قلقا عنصريا “لطيفا” أو ذكوريا “أخلاقيا”، لم يقلق من أن تفقد النساء حيواتها باعتبارهن الأضعف جسدياً إبان أي صراع يتطلب قوة بدينة، من آثار انفصالهن عن أبنائهن، في حال كن أمهات، باعتبارهن الأكثر مسؤولية عن البيت والحياة الأسرية، إلى غيرها من مصادر القلق التي رغم ذكورية فحواها إلا أنه يمكن النظر لجانب كريم وأخلاقي فيها.
لا، هو خاف على شرف الرجال، هو قلق على السمعة والعرض المتمركزين في أجساد مستورة الحكايات، محجوبة الآلام، لا يعرف أحد عنها شيئا. فالسمعة والعرض والشرف عند أمثال هذا “الأحدهم” تتجلى في الستر، في ألا تنكشف قصة انتهاك جسد لا ألا تقع.
فانتهاكات الأجساد موجودة ومستمرة وأحياناً باسم قراءات دينية لربما هو يقرها، موضوع اغتصاب الزوجات مثالاً، إلا أن هذه انتهاكات تحدث خلف الأبواب المغلقة، وبعقد شرعي، وبرضى كل الرجال المعنيين بالأمر، وعليه، فالعرض والشرف والسمعة محفوظون، وهذا هو المهم. لذلك، وتلك “لذلك” ممطوطة مطاطية المبدأ الأخلاقي لهذا “الأحدهم” ولزجة لزوجة منطقه المريب، إذا ما قامت حرب، وإذا ما شاركت النساء على الجبهة الأمامية، وإذا ما خسرت الكويت هذه الحرب، وإذا ما تم أسر نساء من الجيش الكويتي، إذا ما حدث كل ذلك غير المتوقع أساساً، فكل ما يهم هو ألا تغتصب هذه الأجساد حتى لا يُمس شرف وعرض وسمعة الرجال، وإلى ستين داهية حيوات وأرواح النساء.
والأسئلة تتوالى، في الحروب هل يتم أسر العسكريات فقط؟ ألا تتعرض المدنيات لمخاطر مشابهة؟ هل يتم انتهاك أجساد النساء فقط؟ هل انتهاك أجساد الرجال لا يستحق الاهتمام ولا يعتبر ماساً بالعرض والشرف؟ إلا أن “أحدهم” آخر أخذ الحوار إلى منعطف مختلف حين “نخى” الرجال فسألهم أن هل يقبلون أن يحتمون خلف “حريمهم”؟ هل يرضون على أنفسهم أن تدافع عنهم النساء؟
وإذا ما تركنا الخطاب الحقوقي والمساواتي جانباً، سنرى أن هذا سؤال غريب في انعدام ذكائه، انعدام ذكاء واقعي، وانعدام ذكاء لفظي، فحتى لو كان “أحدهم” يؤمن فعلاً بعار الاحتماء بالنساء، ألم يكن يستطيع اختيار تعبيرات أفضل من تلك العشائرية القديمة التي تعود بالخطاب كله لمكان وزمان مغايرين؟ مثل هذا “الأحدهم” تحديداً تجده متمترساً خلف نساء بيته طوال الوقت ودون أن يدري بتمترسه المستمر وأحياناً الجبان بعض الشيئ.
فحين يجوع هذا “الأحدهم”، ألا يقف خلف النساء ينتظرهن يقدمن له لقمته؟ وحين يتلف دشداشته، ألا يقف خلفهن حتى ينظفن ويحضِّرن هندامه؟ وحين يجلب معه “عفارة” الشارع لداخل بيته، ألا يتمترس في غرفته، مختبئاً خلف نسائه لحين ينظفن ويرتبن مكانه؟ وحين يعلن عن امتداده الذكوري بإنجاب أبناء يحملون اسمه دون اسم أمهم، ألا يختبئ خلف هذه الأم لتنجز شاردات وواردات متطلبات حيوات الأبناء ليتفرغ هو لبناء مستقبله العظيم المتمثل في تصريحات من مثل “عيب تحتمون في حريمكم”؟
ألا يتمترس هذا “الأحدهم” وكل “الآحاد” الآخرين خلف نسائهم طوال الوقت وفي كل تفاصيل حياتهم اليومية دون أن يعيبوا على أنفسهم عدم قدرتهم على أن يضعوا لقمة أمام عائلتهم وأن يغسلوا هدمة يضعونها على أجساد أبنائهم؟ مش عيب عليكم “تحتمون بحريمكم” طوال الوقت وعند كافة تفاصيل الحياة اليومية؟
ولقد كانت هناك ضروب أخرى من الجدليات الجاهلة مثل: وماذا عن رقة المرأة وما سيحدث لأنوثتها؟ كما وذهب البعض للتشكيك في أخلاقية العسكر أنفسهم، مؤكدين أن أكثر الانتهاكات تحدث داخلياً بين أفراد الجيش ذاته، ليأتي “الحل العربي” جاهزاً: لا طبعاً، هو ليس أن تُصلح المؤسسة العسكرية إذا صح الادعاء حول الانتهاكات الأخلاقية في أروقتها، بل هو منع دخول المرأة فيها، والباب الذي يأتيك منه الريح، سده واستريح، وإلى ستين داهية، هذه المرة، سلامة أجساد وأرواح الرجال.
طبعاً كانت هناك تعليقات خاوية الذكاء حد الإبهار حول الطبيعة البيولوجية لجسد المرأة، لحالات الحمل والولادة ولربما إشارة لدورتها الشهرية كذلك. فكما يعرف الجميع، في أوقات الحروب، الوضع الهرموني للجندية هو أحد أهم المؤثرات الاستراتيجية على النتائج السياسية للحرب، ومما لا شك فيه أن حالتها العضوية الشهرية ستكون فأل شر على طالع الحرب، وتلك هي الجزئيات الملحة المستحقة للنقاش عند الشعوب التي لا ترى في نسائها سوى “غرابة” أجسادها.
ليس المقلق من انتشار هذه التعليقات أثرها على القرار الذي انطلق في الكويت والذي ستفعّله النساء بكل قوة وأريحية، إنما المقلق هو تضمينات مثل هذه الأفكار وتداعياتها على غيرها من الأفكار. ما هو مصير الأمم الشرق أوسطية التي لا يزال عدد مهم من أناسها يفكرون بهذه الطريقة الفكاهية المريضة؟