قبلَ بضعة أيام تشاركتُ في تقديم ندوةٍ فكرية مع الدكتورة عروب الرفاعي، وهي سيدة تنطلق من منطلقات إسلامية تتسع الهوة كثيراً بينها وبين رؤيتي الليبرالية الاجتماعية الاشتراكية. كان الحوار هادئاً مستنداً إلى ضرورة التمسك بالعقلانية والمنطقية، غيرَ أن الاختلافات كانت شاسعة بين رؤية كل منا لفداحة الداخل النسوي العربي، والكويتي تحديداً. فبينما لم تكن الدكتورة عروب ترى في الأمر أزمةً كبيرة، كنت أنا – على النقيض – أراها أزمة مُلحة تهدد أمننا وحياتنا، وفي حين كانت هي ترى أن الحراك هادئ داخل الكويت، كنتُ أنا أراه صاخباً بتأثيرَيه الإيجابي والسلبي على السواء، ولعل هذا هو الموضوع الذي تدور حوله سطور المقال.
كانت هناك كثير من الآراء التي تحتاج إلى إعادة توضيح ولربما تفكُّر فيها، ولكن كان جانبٌ من بين ما قلتُه رداً على سؤال إحدى الحاضرات، هو نقداً للحَراك النسوي الشاب اليوم في الكويت تحديداً، ولربما في منطقة الخليج عموماً. فقد أشارت السائلة إلى ضيقها واستيائها من الأحكام المطلقة التي تُطلقها بعض الشابات البارزات على صفحات التواصل الاجتماعي في الحراك النسوي، وكيف أنهن يحاكِمن ظروف الأخريات ويقسون على تحرُّكهن، وأعربت السائلة عن شعورها بأنها لا تنتمي إلى مثل هذا الحراك وهذا الفكر اللذين يُقصيانِها بعيداً ولا يُباليان بظروفها. رددتُ أنا – اقتضاباً تحت سيف الوقت – بما معناه أن هناك شابات صغيرات غيرَ مُلمات باختلاف الظروف الاجتماعية للنساء، وغيرَ مطلعات على مسارات تاريخ النضال بنجاحاته وإخفاقاته، ومن ثم يتحولن، من دون تقييم لنجاعة الأسلوب وتأثيره، إلى العنف وإطلاق الأحكام جزافاً. وماذا كان رد الفعل على نقدي هذا؟ تحديداً السلوكَ ذاته: غضباً وإهاناتٍ وشتائمَ بطريقة تعكس الأسلوب الذكوري الحاد نفسه الذي يسعَين إلى مقاومته. فهن في عارض مقاومتهن للعنف النفسي واللفظي والجسدي الذي يعانِينه كنساء في منطقة الخليج تحديداً، تبنَّين، لربما بغير تقصُّد أو إدراك تام منهن، هذا الأسلوب ذاتَه وأشهرْنه كأداة مقاومة.
في واقع الحال، هذا الأسلوب الذكوري العنيف قد يكون مقبولاً، وله مساحته التي يجب أن يفسحها له الجميع كأسلوب للتعبير والمقاومة مهما اختلفنا عليه. لكن قبول وجوده لا يعني أبداً التخلي عن نقده ولا التسامحَ الفكري معه. ومن يُرِدْ أو تُرِدْ انتهاج العنف اللفظي ضد الآخرين، فأقلُّ ضريبة يتعين عليهم دفعُها هي تقبُّلهم للنقد المنصب على توجُّههم، بل أحياناً تحمُّل أن يلاقيهم آخرون بالعنف والإهانات ذاتها. فهكذا هي طبيعة الأشياء، ومن تسلكْ طريقاً معيناً، يجبْ أن تتوقع مصادفة سائرين آخرين عليه، سيردون عليها بالردود نفسها، وسيتعاملون معها بالأسلوب ذاته. فمن الملاحظ أن الأسلوب “جامع” أياً كانت نوعيته، فهو يربط الناس في حَراكاتهم ويجبرهم على مواجهة أعداء من نوعيتهم ذاتها. وحقيقة الأمر أن هؤلاء النساء خلقن جواً عنيفاً محيطاً بهن، يجتذب هذه النوعية من الحوارات التي تقسو من خلالها كل الأطراف بعضها على بعض من دون الوصول إلى نتيجة منطقية. لقد خلقت هؤلاء النساء جواً قاسياً، منفراً وإقصائياً لكثير من المراقبين. فأيَّ نتيجة حقيقية على أرض الواقع، وأيَّ تغيير مؤثر في حيوات المقموعات حقق هذا العنفُ الموجَّهُ منهن إلى الآخرين، وأحياناً المتبادلُ بين بعضهن البعض؟
أعلم بالطبع دوافع ومنطلقات مثل هذا الغضب، فكل فتاة وامرأة لديها قصة، لديها حِمل أو همٌّ دفين، حتى من تعيش في ظروف أفضل، لكن يبقى أن النضال الفاعل يحتاج، جنباً إلى جنب الغضب والثورية “وحمل السيوف”، إلى الاستفادة من التجارب السابقة المحلية والعالمية. فعلى سبيل المثال كان أحدُ أبرز ملامح الموجة الثانية من النضال النسوي العالمي هو خطابَها الناري، وغضبَها العارم وعداءَها السافر للرجال، إضافةً إلى إطلاق أحكام قاسية من النساء بعضِهن تجاه بعض إلى حد تحديد المظهر والسلوك والكلمات لمن ترغب في أن تكون ضمن جماعة الحَراك النسوي حينذاك. كان حَراك الموجة الثانية، في جانب منه، قاسياً، انفعالياً وإقصائياً – من دون إغفال إيجابيات الموجة وبعض إنجازاتها – وهو ما أضعف أثرها وسبَّب عزل مجموعة كبيرة من المعنيات بها، لتأتي الموجة الثالثة كي تصححها بتأسيس حركات عكسية في الواقع لما شكلته الموجة الثانية، وهذا موضوع آخر يطول شرحه.
عودةً إلى وضعنا الداخلي، يبدو لي أن أخطر ما تفعله هؤلاء الشابات هو خلقُ بوتقة مقفلة عليهن، وإعلانُهن أنفسَهن محارباتِ هذا الزمان الوحيدات من دون التفكر العميق في طبيعة المعركة ولا كيفية خوضها ولا نوعية الأسلحة اللازمة لها. كان للعربيات المناضلات اللواتي فقدن حيواتهن وأمنَهن لتمهيد جزء من الطريق لشابات اليوم أوجُهٌ مختلفة من النضال، بعضُهن تمرَّدن أيديولوجياً، وبعضهن انطلقن دينياً، وبعضهن ثُرن أدبياً، وأُخريات أخذن طريقهن إلى الشارع، وغيرُهن غامرن بأرواحهن وهن يُحرقن العباءة واليشمك، ومنهن من عانت تمسكاً بغطائها وتديُّنها ومظهرها. وما كان مشتركاً بينهن جميعاً هو أنهن كُنَّ يحاورْن، يتحدثن ويستمعن في الوقت ذاته. وكان من بين الأمثلة التي ذكرتُها أنا في الندوة الدكتورة نوال السعداوي، التي على رغم ما يُؤخَذ عليها من حدة طرحها وقسوة كلماتها، فإنها كانت صاحبة هدف ومسار أنقذا حيوات عديد من النساء، وكانت تقدم مقابلات جريئة وواعية، وكانت وهي تحاكم بعض النساء شفاهةً، تحرص على ألا تشتم أوتُقصي أو تُسيء، بل كانت تساند من تختلف معهن، وتتفهم حيواتهن على أرض الواقع، فهي ابنة البيئة، وكانت الأقرب إلى أن تتعرض للزواج المبكر والختان لولا مقاومتُها ورحمة الأقدار بها.
الموضوع ليس هو السنَّ تحديداً، فنحن لا نعرف عمر كل ناشطة على “الواقع الافتراضي”، بل ربما يتمثل الموضوع في غياب نضج يطرح صفة “الشبابية السلوكية” من دون إشارة إلى العمر الفعلي، وهو غياب طبيعي سيختفي بدوره مع الزمن، لتحل مكانه الخبرة والفهم الأعمق. لا يتجلى غياب النضج هذا في الجرأة أو الحدة أو الاندفاع أو الاختلاف؛ فهدى شعراوي كانت جريئة الخطوات، ونوال السعداوي كانت حادة المقاومة، ومي زيادة كانت مندفعة العبقرية، ولُجين الهذلول كانت مختلفة التوجُّه، لكن غياب النضج يتجلى في غضب عشوائي يُراد به الدخولُ في معارك مهما كان ثمنها وأياً كان توجُّهها، أحياناً حتى ضد أخريات يعانين المعاناة نفسها ويَحيَين الظروف ذاتها. هذا التوجه قد يُقصي كثيرات ويعزل المعانيات اللواتي يشعرن أحياناً، كما تبين من سؤال سائلتي في الندوة، بأنهن محصورات بين مجتمعَين: المجتمع الذكوري الحارق والمجتمعِ النسوي العنيف حتى تجاهَهن. وعلى حين أن عنف المقاومة هو أسلوب لا يمكن أو يجوز قمعه، فإنه كغيره من أساليب المقاومة عُرضة للدراسة والتحليل. والنقد ليس في الواقع استعداءً أو انتقاصاً، كما لا يجوز التعامل معه بدور الضحية له، هذا ما لا مسوغ له ولا طعم. معظمنا ضحايا لمجتمعاتنا الذكورية العنيفة بلا شك، لكننا لسنا ضحايا طَوال الوقت، ولسنا ضحايا لكل مختلف عنا في الرأي. ليس مستحَقاً علينا أن نمارس الغضب والعنف طوال الوقت وتجاه كل شخص بمعية معاناتنا. هذا غير ناجع واقعياً ولا مؤثر فكرياً ولا مفيد حياتياً لصاحبات القضية أنفسهن.
وعلى حين أن ما أصابني شخصياً من عنف الكلمات يدخل كله في باب النقد المباح، وإن كان نقداً غليظاً منفراً وغير مثمر، فإن ما أصاب غيري من النساء المعانيات كان أكثر بكثير. فحين أشارت بعضُهن إلى أن قدراتهن محدودة في النضال، وأن الخروج من إطار المنظومة صعب أو غير “مهضوم” منهن بحد ذاتهن، وأن نضالهن ينحصر فعلياً في البقاء على قيد الحياة ومحاولة الاستمرار في منظومة يومية قاسية، أتى الرد بطردهن من المنظومة النسوية، فكأن المطلوب لكي تكوني “نسوية” خالصةً هو نوعٌ من الثورة حتى الموت. هناك كذلك أخريات لا يستطعن أو لا يرغبن في الخروج من المنظومة الذكورية بأكملها. فبالنسبة إليهن هناك شيء من الراحة والأمان في الإبقاء على القالب الذكوري القمعي، أو لربما يشعرن بأن قراءاتهن الدينية و”كودهن” الأخلاقي تجبرهن على الانصياع له، فهناك فئة كبيرة متدينة من النساء يتنازعها شعوران: شعور الاستحقاق الإنساني وشعور الواجب الديني (وفقاً للقراءات المفروضة عليهن). كل هذه الفئات لا يمكن إقصاؤها، فضلاً عن أنها – في الواقع – هي الأَولى بالعناية والاحتواء. وقد لا تتفهم بعض الناشطات أن أوجه النضال تتعدد، وأن أصعبها فعلياً هو محاولة البقاء على قيد الحياة والتغيير من الداخل، وهو ما فعلته نسويات عديدات لم يذكر التاريخ أسماءَهن، لربما من بينهن جدتي وجدتك وأخريات رائعات مغمورات، لم يذكرهن التاريخ ولن يعرف أحد أسماءهن في يوم ما، لكنهن نسويات مناضلات، ربما أكثر منا، وهن يدفعن بنا – من دون أن يَرَينَنا أو يعرفْنَنا – ولو خطوةً صغيرة إلى الأمام.
من هنا لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن الحوار العنيف الدائر منفِّر للمراقبين ومُقصٍ لكثيرين ممن يودون المشاركة، لكنهم يمسكون عن ذلك خوفاً من الوقوع في نار الحوار والتعرُّض للإهانة والشتم. لا بد من الاعتراف بأن هناك نوعاً من الاستقواء، بهذا الحماس الشبابي والاندفاع النضالي، على الآخرين غير القادرين على مواكبة هذا الأسلوب، الذين ينتهي المطاف بعزلهم وإسكات صوتهم، رجالاً كانوا أو نساء، ولا أعتقد أن هناك أسلوباً ذكورياً حقيقةً أكثرَ من هذا. وعلى رغم نصح كثير من الأصدقاء لي بالابتعاد عن الساحة خوفاً من تعريض نفسي للإهانات، وعلى رغم أنني لا أرى الإهانة سوى سهم يوجهه الإنسان إلى نفسه لا إلى غيره، فإنني أُمنطقها كذلك ثمناً طبيعياً لتنوُّع توجهاتنا وتبايُن طبائعنا. ومن هنا تبقى الإهانة نوعاً من أنواع النقد الضعيف المتواضع الذي، على رغم ضعفه، لا يمكن ولا يجوز إسكاتُه، لكن الممكن فقط هو إعادة نقده بعقلانية وهدوء. صحيح أن التواصل قد يعرض أطرافه لما يكرهون من قول أو فعل، غيرَ أن الصد سيحشر بالتأكيد صاحبَه في خانة التعالي والتخلي عن الدور المناط به أو بها تجاه جيل العمل اللاحق. لذلك شيء من المغامرة بالراحة الشخصية مهمٌ في سبيل تحقيق بعض من التواصل الفكري والنفسي والإيفاء بشيء من الدور المناط بنا كناشطات سابقات على الطريق.
هناك جو عام من العنف عندنا، تسوِّغه ظروفُنا الاجتماعية والسياسية، وتمكنه مساحات التواصل الجديدة التي – من زاوية إيجابية – فتحت الباب لحرية الصراخ بما لم يكن من الممكن الصراخ به من قبل، والتي – من زاوية سلبية – رسَّخت العنف اللفظي أسلوباً لجذب الانتباه. هذا المنحى بمجمله مهم ومؤثر على رغم أنه قد يجذبنا خطواتٍ إلى الخلف في بعض المواقف، وعلى رغم الملامح الذكورية المستقرة في عمقه، ذلك أنه يبقى أحياناً كل ما تملكه المرأة المسجونة في غياهب سجوننا الذكورية العميقة، وأحياناً أخرى هو المؤثر الأوقع لجذب الانتباه وتحقيق بعض التغيير. وإذا كان شيء من سياط هذا العنف “سيجلدنا” أنا وغيري في عارض التغيير، فمرحباً بها من تكلفة متواضعة لإنجاز كبير. غير المبشر هو العنف تجاه الأخريات من النساء والحكم عليهن لأنهن اخترن طريقاً دينياً أو متحرراً، أو التزمْن ملبساً بعينه أو عبَّرْن عن اقتناعات بما لا يتواءم والنظرة التحررية للمرأة أو بما لا يتسق والنظرة المحافظة لها، أو قرَّرْن النضال بطريقة أكثر هدوءاً، أو رفضن تسمية النسوية أو تحسسن منها، أو اختبأن في عمق الأسرة محاولاتٍ إحداث تغيير “تاويِّ” الأسلوب، كأنهن ماء يمشي على صخر آلافاً من السنوات لينحت أخيراً ممراً في هذا الصخر. كل هؤلاء النساء لهن مكان في الحراك، كلهن يتعيَّن أن نضمهن إلى قلوبنا وأحضاننا، وأن نتفهم قيمة وعمق تضحياتهن. ومن دون تفهُّمٍ لطبيعة اختلافاتنا، من حيث المنهج والهدف والأسلوب، لا يمكننا الوصول إلى المكان المنشود أبداً.
إن أهم معضلات وعوائق الحَراك النسوي أنه غير قادر على خلق صورة – ولو شبه موحدة – للجبهة النسائية. فالتغيير يحدث بالتكاتف والتعاون لا بالتفرق والنزاع، وكل حراك تنازعت أطرافه فشل وسقط. لذا لربما تفكرت الشابات في خطوة مستقبلية، تجمع جهودهن ولا تبعثرها، تكون أكثر شمولية وإنسانية ورحمة بمن تختار طريقاً مغايراً لاختيارهن. بالطبع أنا أتحدث هنا عن المشارِكات في المسيرة النسوية، حتى إن كُن لا يميزنها، لا عمَّن يتخذن خطاباً ذكورياً بحتاً منهجيةً لهن، أتحدث عمَّن توجد مساحةُ للتفاهم معهن وإمكانيةٌ للتقارب مع وجهات نظرهن، لا عمَّن تلبَّسن عقلاً ذكورياَ طاغياً يكاد يُخفي ملامحهن الأنثوية، ليستقوِين اجتماعياً ويتعالَين اقتصادياً ويتفاخرن إثنياً، متجاوباتٍ مع كل التصنيفات الذكورية البحتة التي تتصادم مع جوهر قضاياهن الحقيقية وتخاصم الأهداف البعيدة التي يتعين عليهن النضالُ من أجلها. هذا النوع من النساء يحتاج إلى نوع مختلف من التعامل، طويل الأمد، طويل النفس، متحايلٍ مترفقٍ أحياناً وقاسياً زاجراً أحياناً أخرى. وفي تاريخ النضال النسوي، الشرقي والغربي، هناك نماذج عدة للمقاومة “الناعمة” وأخرى للمقاومة الثورية، الأولى تتسامح وتحاول التغيير من الداخل، والأخرى تواجه وتصرخ، لكن التاريخ لم يذكر بخيرٍ قط مقاومةً يؤذي بعضها بعضاً وترمي عضواتُها بعضُهن بعضاً بسهام الشتم والتعريض بالكرامة والإيذاء النفسي، لتوفر هذه “المقاومة” لأعدائها فرصة السخرية منها والشماتة بها قائلين: “حط حيلهم بينهم”.
إن أسلوب النضال اللفظي العنيف يبقى خياراً مطروحاً، في الصراع السياسي، وفي النضال النسوي، وفي غيرهما من أنواع العمل العام (وإن كنتُ لا أحبذه شخصياً ولا أنتهجه إلا في أقل الظروف)، لكنه متاح ولربما كان مستحسناً أحياناً، غير أنني أرى استخدام هذا العنف اللفظي ضد نساء أخريات، بذريعة اختلاف أسلوبهن في النضال، أو تباين اختياراتهن الحياتية أو رفضهن الإذعان لقيود “القولبة النسوية”، أو لأنهن يعشن في منطقة مجتمعية لا تتعرض للمظالم ذاتها التي يعانيها غيرهن، إنما هو إضعاف لجبهة النساء الداخلية، وإشعال لعداءات “بينية” تفتت كتلتَها وتبعثر جهودها، في حين يتعين علينا التعاضد والاصطفاف والتفاهم، لجمع العصيِّ في حزمة واحدة، وإن اختلفت مفرداتها طولاً وقوةً. هذا العنف الحواري يشكل أحياناً حالة تنمُّر واضحة على “المختلفات”، ومحاولة لإسكاتهن بالصراخ والقسوة اللفظية، بينما نحن في مسيس الحاجة إلى أن يُصغي بعضنا إلى بعض.
ولا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن النزوع إلى وضع الرجال في خانة الأعداء المباشرين للنساء – فضلاً عن كونه تصرفاً غيرَ منصف وليس واقعياً، وينتهج الأسلوب الذكوري ذاته في تصنيف الجنس الآخر – إنما يشكل في الواقع وضعية مريحة لضمائر الرجال أنفسهم، إذ يُعفيهم من المشاركة وتحمل مسؤوليتهم عن تدهور الأوضاع الاجتماعية للمرأة، وكأني بهم يقولون: ما دمنا أعداءً من البداية فلا داعي إذن للمحاولة أصلاً. يتعين علينا الانتباه كثيراً لخطر اتخاذ مواقف سلبية مسبقة من الرجال، فمواقفهم العادلة ضرورية ولازمة، ودورهم مطلوب ومستحَق، ومن دون تعاون الأغلبية “الرجالية” المستنيرة والمتفهمة لن تُرَد المظالم، ولن يُصلَح المُعوج، بل سنظل نعيش في حلقة مغلقة من الصراع المستمر بلا فائدة.
اغضبن، ولكن في خضم الغضب لا تُشعلن عداوات أنتن في غنى عنها، ولا تستعْدِين ولاءاتٍ أنتن أولى بمساندتها، ولا تَقسُونَ على بناتٍ من جنسكن هن أحق بالتفهم والرحمة، ولا تُقصِينَ من يخالفْنَكنَّ في الرأي وهن أولى بالتواصل والتفاهم، فلربما – فقط ربما – تتمكنَّ من تغيير المختلفة عنكن وتكسبْنَها في الصفوف، اغضبن إذن.. لكن احرصن – في الوقت ذاته – على أن ينساب الغضب كله بين ضفتي نهر واحد، كي يصل إلى مصبه المنشود ويحقق أملنا البعيد.
لم تكن كتابة مقال طويل كهذا إلا محاولة (متواضعة) مني للدعوة إلى تحقيق تقارب مهم ومطلوب وحيوي في هذه المرحلة، وهو بمنزلة إعلان أن نجاح القضية أهم من المواقف الشخصية، وأن المطلوب ليس انتصاراً فردياً لن تكون له قيمة تُذكَر، بل المطلوب والواجب هو عدالة وأمن وسلام وحقوق جماعية لبنات جنسنا… وحين يكون الهدف بهذا السمو فكل شيء دونه يهون.
تدقيق لغوي: الأستاذ شعبان السيد