لا يزال هذا الخلط المريب لما هو سياسي ومدني بما هو ديني ينخر في كل جوانب حياتنا، ولا يزال الإصرار على أن الإسلام منهاج دنيا ودين مشوشاً للرؤية ومثيراً للخلافات العميقة وخالقاً للأقنعة التي يتخفى الناس خلفها. صدر في الكويت، حديثاً، قانون مرتقب منذ فترة بإنشاء ديوان وطني لحقوق الإنسان سيمثل جهة إنسانية حكومية معنية بمراقبة القضايا الحقوقية في البلد وكتابة التقارير حولها ومساعدة المواطنين والمقيمين على إيصال أصواتهم عن مشاكلهم الإنسانية، وبخلاف إشكالية المتناقضين من حيث صنع مؤسسة إنسانية وحكومية في الوقت ذاته، ذلك أن المؤسسة الإنسانية هي مؤسسة معارضة بطبيعتها ومراقبة للحكومة وناقدة لها، إلا أن إشكالية هذا الديوان تعدت وتعمقت بإشارته إلى الالتزام بنص المادة الثانية من الدستور الذي يشير إلى دين الدولة وأنه مصدر رئيسي للتشريع.
والكويت دولة عميقة الديمقراطية مقارنة بالدول المحيطة، سواء خليجياً أو شرق أوسطياً، لذا ستعلو الأصوات-ولو كانت قليلة-لتعترض على أي تمييز ديني سيبديه هذا الديوان، إلا أن هذا الخلط من بدايته سيخلق عراقيل وإشكاليات عميقة التضارب والمبادئ الإنسانية وشديدة التصعيب للعمل الإنساني الصعب أصلاً والمتعدد العراقيل، دون الحاجة إلى إضافة الحاجز الديني. هذه النقطة تقود للسؤال الجذري المستحق هنا: هل يمكن تأسيس أي عمل إنساني على أساس ديني؟ هنا طبعاً يجب التفريق بين العمل الإنساني المعني بحقوق البشر وبأمنهم وبحيواتهم وبكراماتهم وبغيرها من الأمور الحياتية، وبين العمل الخيري المعني بالتبرع المادي أو العيني؛ فالأخير يمكن له أن يكون دينياً، بل كثيراً ما يكون نابعاً من مشاعر دينية ومنظماً بشكل كبير وفاعل عن طريق المؤسسات الدينية التي عادة ما تكون الأقدر على تجميع الأموال وتحفيز الناس على التبرع للأعمال الخيرية. أما العمل الإنساني، فهو في روحه يتناقض وبشكل مباشر مع أي تصنيف ديني، فما أن يتم ذكر الدين كعامل تصنيفي أو حكمي أو تشريعي في القضايا الإنسانية، حتى يتم نسف القاعدة الإنسانية الأساسية برمتها، والتي تنص عليها المادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حيث تقول: «لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي سياسياً وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر. وفضلاً عن ذلك، لا يجوز التمييزُ على أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سواء أكان مستقلاًّ، أو موضوعًا تحت الوصاية، أو غير متمتِّعاً بالحكم الذاتي، أم خاضعًا لأيِّ قيد آخر على سيادته». وعليه، فإن أي محاولة تميزية أو حتى مجرد تصنيفية ستكون في تعارض مباشر وصريح مع القاعدة الأساسية للعمل الحقوقي الإنساني.
إن استخدام الشريعة الإسلامية، على سبيل المثال، وخصوصاً في الفهم والتفسيير الحاليين لمعظم جوانبها، سيكون له بالغ الأثر في فاعلية العمل الإنساني. أول من سيدفع ثمن خلط الشريعة بالعمل الإنساني ستكون المرأة بطبيعة الحال، التي ستقف الكثير من التفسيرات الدينية أمام نيلها حقوقها الإنسانية كاملة، مثل إلحاق جنسيتها بأبنائها، وإضافة اسمها لأسمائهم، واستقلاليتها كفرد دون وصاية ذكر، وتبوئها المناصب العليا القضائية، وغيرها من المناصب الحساسة، وتساويها في حقوق الطلاق والميراث والشهادة القضائية، وغيرها. هذا وستكون هناك قضايا أخرى محظور تداولها تماماً إذا ما كانت الشريعة الإسلامية عاملاً مقرراً في القضايا الإنسانية، منها مثلاً قضايا المثليين، وقضايا زواج القصر، وقضايا حرية الرأي والنقد مهما بلغت درجتاهما، وقضايا حرية الدخول والخروج من العقائد أو عدم الانتماء لها أساساً، وغيرها من القضايا التي ستكون على درجة شديدة من الحساسية، مشكّلة خطراً في التعامل معها وحرجاً شديداً على الناشطين فيها، حيث سيحكم عليهم المجتمع بالخروج عن الدين (وإن كان ذلك حقاً إنسانياً ولا يجب أن يحمل أحكاماً) وسيوصمون بوصمات أخلاقية حارقة نابعة من الفهم الديني العام للمجتمع.
لن يقبل المجتمع العالمي اليوم أي تحديد أو تأطير للعمل الإنساني، والناشطون في المجال يعلمون أن القضايا المتسببة في أعلى درجات الحرج للناشطين إبان حضور المؤتمرات مثلاً هي قضايا المرأة، والقضايا الجندرية، وقضايا حرية الرأي وحرية التعبد، وجميعها يعلوها ألف محظور وتحتها وفوقها ألف خط أحمر، وذلك في مختلف الشرائع الدينية الحديثة، ولا تختلف في ذلك الشريعة الإسلامية، بل تزيد من حيث إصرار العالم الإسلامي على التمسك بالتفسيرات القديمة التي لم تعد تتواكب والفهم الحديث لحقوق الإنسان. وحتى ينجح العمل الإنساني وتُثبت الحكومة، أي حكومة، صدق توجهها في هذا المجال، يجب أن تأتي مؤسساتها خالصة من كل تصنيف، وتأتي تشريعاتها نقية من كل تحيز، وقراراتها صافية من كل تمييز، أما بغير ذلك، ومن دون هذا الحياد الشديد القاسي العنيف البارد كقطعة الثلج تجاه أي محاولات تخويف أو دفع بتمييز أو تهديد بدين، فلن ينجح العمل ولن يأتي سوى بالمزيد من المعضلات الإنسانية والتفريقات والتمييزات الاستشكالية التي ستعقد القضايا وتثقل القلوب، وستشعر أن الدولة بأكملها منحازة لتشريع ديني حتى في تعاملها الإنساني. إذن، إما الحياد التام الخالص القاسي الحارق أو نفي أي عمل إنساني على الإطلاق.