ذات مرة سألتني بشاير، ونحن في الصف الدراسي، عن سبب استمراري في أنشطتي أو كتاباتي على ما تجلبه من جلبة وما قد تلحقه بي وبعائلتي من أذى نفسي. أجبتها أنني لا أدري، وذلك تجنباً مني لإجابة كليشيه تقول بالتغيير والإيمان والمبدأ وغيرها. سعيت كثيراً إلى مواجهة نفسي حول أسباب إصراري المستميت أحياناً على توجهاتي، فقد تختبئ في ثنايا النفس الرغبة في الشهرة، أو التشوق للمواجهة والتحدي، أو الاستمتاع باستثارة الناس، فكل تلك مشاعر إنسانية لا يعصمني منها شيء خاص في تكويني النفسي والعقلي.
وكمحاولة لإجبار نفسي على الإجابة وجدتني أواجه نفسي بسؤال آخر: هل أعتقد أن ما آتيه سيحقق شيئاً من التغيير؟ وكطعنة في القلب تأتي الإجابة: لا، لا أعتقد أن تغييراً مرئياً محسوساً سيتحقق في حياتي. إذن، لابد أن لي “مآرب أخرى”، فلا يمكن أن يخلو الغرض الإنساني من رغبة في تحسين الحاضر. ما هذا الذي أريده ولا أستطيع من رغبتي فكاكاً؟ حقيقة، كنت لا أدري.
ولقد دعيت لحضور مهرجان “سلام يا وطني” الذي تقيمه قائمة الراية (بريطانيا- ايرلندا) بمناسبة احتفالات العيد الوطني وعيد التحرير أواخر أيام الأسبوع القادم. وما أن تلقيت الدعوة حتى فاض قلبي بالمشاعر، وتزاحم رأسي بالأفكار، فأسجل هنا ملاحظة، وأضع هناك تذكيراً بفكرة. فجأة أضاء مصباح الإجابة، وفهمت أن مصدر إصراري ونشاطي هو هؤلاء الشباب والشابات، هو ردود أفعالهم، هو ألق أراه أحياناً في عيونهم، هو لحظة صمت تسود بيننا إذا قلت شيئاً لم يفكروا فيه من قبل أو إذا قالوا شيئاً لم يحضرني في السابق، هو الإلهام، رغبتي الملحة في أن أستطيع أن أكون مصدر إلهام وحاجتي العارمة لهم كمصدر للإلهام.
أعتقد أنني تعرفت حقيقة على المنبع الذي يأتي منه إصراري، فهمت رسالتي وهدفي، إنهما رسالة وهدف كل معلم “سعيد” في الدنيا، ليس أن يقدم معلومة جديدة، ولكن أن يستخدم المعلومة ليلهم بها طلبته. كل ما أريده لهؤلاء الصغار هو أن يتفكروا، أن يعاندوا السائد ويتحدوا الراكد من الأفكار، فأن يصلوا إلى نتيجة أو لا يصلوا ليست معرفة ذلك أو التأثير فيه قسراً حقاً لي، لكن تحريك الراكد هو واجبي، وهو ندائي، وهو مهمتي المقدسة ألى أن أفترش التراب.
ليس لقاء بريطانيا مع الطلبة الأحبة هو الأول من نوعه، إلا أن هذه الدعوة الأخيرة، ومع تقدم سنوات عمري وفهمي الأفضل لنفسي ولأهدافي في الحياة، تجلت عن اصطيادي لمصدر عملي وتفكيري وإصراري وصراعي. غايتي هو أن أكون عاملاً ملهماً للصغار وهم يكبرون، أن أقول كلمة أو ملاحظة تترك أثراً، أن أعرض معلومة أو رأياً تجعلهم يتوقفون وهلة ليروا جانباً لم يروه من قبل، يستحسنون أو يستاؤون، يوافقون أو يعترضون، في كل أحوالهم يفكرون في شيء لم يتفكروا فيه في السابق، يتساءلون لماذا حول ما كان تحصيلاً حاصلاً، يستفسرون كيف وأين حول ما كان حقيقة غير قابلة للجدال. وماذا لو أنني كنت مفترق طريق أحدهم، فتوقف عند شيء قلته أو معلومة عرضتها؟ ماذا لو أن حياة هذا الشخص تغيرت عند هذا المفترق بسببي، وماذا لو أن ذلك قد حصل بالفعل دون أن أدري؟ هل هناك محفز للعمل والاستمرار أجمل من ذلك وأكثر رهبة في حياتنا؟
إنه الإلهام ليس إلا، هو ما أًصبو إليه، ليس الهدف إيصال معلومة، فملايين غيري يمكنهم إيصالها، وليس الهدف تغيير مسار، فالتغيير أمر شخصي ليس من حق أحد التدخل فيه، إنما الهدف هو تلك اللحظة الصغيرة السريعة في حياة الشباب والشابات، هؤلاء الذين ألتقيهم في الفصل الدراسي أو في الحياة العامة، عندما تأخذهم ثانية صمت، يرتفع الحاجب ويعوج الفم في حركة تفكيرهم المعتادة المحببة، تتحرك الأيادي معبرة وفجأة هناك آلاف الأشياء يودون قولها، ثم لا شيء يقولونه، تكاد ترى الصراع الداخلي يتجلى حقيقة أمامك وهذه الزهور تتفتح وتخرج من قمقمها إلى عالم السؤال والتفكر الساحر. أعيش أنا من أجل هذه اللحظات، كل قيمتي الإنسانية تتجلى فيها، كل أهدافي وصراعاتي، كل إصراري واستماتتي، انها هذه اللحظات التي أنتظرها.
يختم الفيلم الخارق “كلاود أتلاس” لتوم هانكس مشهده الأخير بجملة مؤثرة. يتصدى تاجر عبيد لرغبة ابنته وزوجها العمل في قضية التحرير بقوله: “ما تفعلانه لا يتعدى أن يكون قطرة، وما هي القطرة في المحيط؟” فيرد عليه الزوج قائلاً “وما هو المحيط في الكميات الهائلة من القطرات؟” قطرة كل يوم، فكرة كل يوم، إن ألهمنا شخصاً واحداً في كل حياتنا، تكون حياة تستحق العيش.
شكراً لقائمة “الراية” الدعوة الدافئة الجميلة في منطقتهم الباردة المثلجة. أتطلع للقائكم الذي ستدثرني فيه أحاديثكم الشبابية المتطلعة للمستقبل.