كتبت الأسبوع الماضي حول زهرات تدفنهن الدنيا، بعضهن وهن لا يزلن حيات يرزقن، حيث تدفنهن الحياة في مصير “طويل الأمد”، يعشن معظمه خارج أوطانهن التي لا يعدن إليها إلا مع نهاية حيواتهن.
كتبت أتحدث عن كراهيتي للكفن، “لليونيفورم” اللواتي تجبر عليه معظم العاملات المنزليات خصوصاً في دولنا العربية وتحديداً الخليجية، ليفصلهن عن بقية المجتمع وليحدد طبقتهن الاجتماعية بوضوح وطبقية فجة.
ولقد أتت بعض التعليقات لتذكرني بأن هناك العديد من الوظائف التي تتطلب اليونيفورم، وأن الكثير من العاملات المنزليات في الواقع يطلبنه حفاظاً على ملابسهن الاعتيادية، أما “أفضل” ما وصلني فينحصر في أن اليونيفورم يحافظ على نظافة العاملة وتعقيم محيطها، فكرة تصعب منطقتها أو فهمها.
لربما لا توجد وظيفة أخرى لها ذات معطيات وظروف و”قهريات” الخدمة المنزلية، هذه الوظيفة الغريبة التي يصعب تنظيمها قانونياً نظراً للوجود المستمر للعاملة في محيط عملها ونظراً لصعوبة مراقبة ظروف وأحداث سير هذا العمل.
يصعب جداً تحديد ساعات العمل للعاملة المنزلية، حيث يتطلب ذلك درجة كبيرة من الضمائرية وضبط النفس عند الأسرة المضيفة لتنهي ساعات عمل العاملة ولتتوقف عن الطلبات المنهكة عند ساعة مقبولة من اليوم. تحت هذه الظروف المائعة والغامضة للخدمة المنزلية تحيا العاملات عملهن باستمرار، يصبح هو الحياة اليومية بكل تفاصيلها بشكل لا ينفصل عن أي جانب آخر من الحياة. بالنسبة لهذه العاملات، حياتهن هي العمل، وعملهن هو فعلياً حيواتهن، هو الرواية والأحداث والذكريات.
تخيلوا معي حياة كل ذكرياتها خدمة آخرين، كل أحداثها غسيل صحون وتنظيف ملابس وتحضير طعام، حياة ليس فيها من سردية غير تلك المكررة عصابياً بشكل يومي كأنها سيناريو فيلم لدائرة زمنية مغلقة، ليوم يتكرر لا يتغير ولا ينتهي.
لا يوجد ظرف أسوأ “للاختيار” من ظرف العاملة المنزلية، فهي حقيقة لديها مساحة محدودة جداً لتختار، ليس فقط نظراً لوجودها مع “رؤسائها” أربعة وعشرين ساعة في الأربعة وعشرين، ولكن كذلك لأن حياتها ليس فيها سوى العمل، لا تنوع ولا أحداث ولا تغييرات تجعل الاختيار مستحقاً أو مرغوباً، وعلام ستختار ملبس وهي لا تغادر مقر عملها؟ علام ستختار لون بهيج لردائها ولا أحد من محبيها سيراه فيفرح بها ويُفرحها؟ علام ستختار موضة لن تتمتع هي بها في نزهة؟ علام ستختار أصلاً وحياتها كلها تتكرر دون أي إرادة منها لتحكمها أو تصنع خياراتها؟
لقد أتت حجة “هي تريد اليونيفورم” معبرة جداً ليس فقط على غياب شعورنا بمعنى الاختيار ولكن كذلك على غيبتنا التامة عن معاناة ومشاعر وتحولات حيوات هذه النساء اللواتي يحيينن معنا. هناك خيارات في الحياة نُقدِم عليها ليس بإرادتنا بل بسبب من غيابها، بسبب من عيش قهري يغيِّب عمق ومعنى الحياة، وغياب الإرادة والعمق والمعنى يجعل من الاختيار رفاهية لا داع لها. العاملة التي تريد أن ترتدي اليونيفورم طوال أيامها، في المنزل وحتى خارجه، هي تعلنها صريحة أن حياتها باهتة ببهتان لون طقمها، مكررة بتكرار ظروف زميلاتها العاملات وكأنهن كلهن تروس في ماكينة ضخمة بشعة تلف وتدور لتخلق حياة لآخرين فيم هي تهرس حيواتهن بين ضروسها. اليونيفورم فيه الكثير من اليأس، الكثير من فقدان الرغبة في الحياة، الكثيرمن اللامعنى الذي تحياه هذه العاملات خصوصاً وأن هذا اليونيفورم ليس مؤقتاً، بل هو كل ما تراه وتستشعره هذه العاملات من صباحات أيامها وإلى مساءها.
إلا أن إشكالية هذا الملبس لا تنحصر في اختياريته من عدمها، إنما إشكاليته الأعظم تكمن في طبقيته المقيتة التي لا يضاهي قوة بثها أي ملبس آخر. اليونيفورم يحدد “الأماكن” الحياتية طوال الوقت، نحن هنا وأنتن هناك، تماماً كما يحدث في بعض المشاهد المؤلمة من بعض العائلات التي يجتمع أفرادها على طاولة مطعم، مفردين طاولة أو كرسياً مطروفين لتجلس عليه العاملة “أم اليونيفورم” وحدها معزولة في طبقتها. اليونيفورم إعلان طبقي بين العاملة ومستقدمها، وأحياناً بين العاملات بأنفسهن، ودون إرادة منهن، حين تشتري رئيساتهن لهن “يونيفروم” فاخر أعلى ثمناً، في إعلان عن مخملية أرفع درجة للأسرة المستقدمة، مخملية تفرق النساء أكثر عن بعضهن البعض، حتى هؤلاء المقهورات بحد ذاتهن، فتجعل ألم إحداهن أرفع درجة وأكثر مخملية من ألم أخرى. لا يوجد يونيفورم طبقي عنصري أكثر من يونيفورم العاملة، لا يوجد ملبس فج التعبير عن الفروقات المجتمعية والحياتية أكثر من ملبس العاملات الموحد، لا يوجد غياب إرادة وقرار واختيار أكثر من غيابها كلها عن العاملة التي تحيا حياتها كاملة داخل عملها، والتي تمثل أحياناً أنها تختار أشياء صغيرة في حياتها هي تعلم أنها حقيقة لا تختارها.
العاملة، في الغالب، تلبس المتاح وتأكل المتاح وترتاح في الوقت المتاح، ذلك ليس فقط للغياب الفعلي للقدرة على اتخاذ قرار، ولكن كذلك لغياب الرغبة في اتخاذه، لغياب الدافع والمحفز والشهوة للحياة. أي فرق سيقع إذا لبست العاملة اليونيفورم الأزرق عن الأبيض؟ أي تغيير في إيقاع حياتها سيحدث إذا أكلت خبزاً أو أرزاً؟ الاختيارات الصغيرة هذه تصبح تافهة أحياناً في غياب إطار كبير يختاره الإنسان ويرسمه، فتصبح الحياة “بلا طعمة” كما يقول الشوام الأحبة، ويصبح الاختيار ثقيلاً عديم التأثير.
الأسهل تنفيذ الروتين والسير في الحياة المرسومة، الأسهل ارتداء ذات الطقم كل يوم، بقَصَّته عديمة الملامح، عن التفكير والاختيار، إن توفرا، اللذين ينكآن جراح غياب الحياة الحقيقية. ننسى أحياناً، في خضم حيواتنا المرفهة، أن هناك آخرون يختبرون حياة لا يعتقدونها حتى تستحق مشقة القرار والاختيار، وهذا الشعور يمثل قمة الظلم وقمة التبديد، تبديد لحياة كان يمكن أن تكون، وما تحققت.