تحميل إغلاق

حوض سمك

حوض سمك

نحن في شرقنا الأوسط الساخن، كائنات مسكينة، غاضبة وذكورية الطباع بالأغلب الأعم. غضبنا تاريخي، قديم ومتوارث، كراهياتنا صلدة، كأنها معدن بارد، تستحيل عليه أي مرونة. ورغم أن الكثيرون منا أبناء صحراء رحبة، حيث تنتشر الصحاري المختلفة في أنحاء العالم العربي الشرق أوسطي، إلا أن نفوسنا ضيقة الأفق، لا رحابة صحراوية في صدورنا، ولا اتساع أفق أمام أعيننا. لا نعرف من لغة الصحراء الجميلة سوى أقساها: السيف البتار والرمال الهائجة.

لي أيام أتعامل مع غضبة شاسعة من متابعين من مختلف أنحاء العالم العربي بسبب ملاحظة حقوقية يتفق عليها كل الناشطين في المجال وإن اختلفت تقييماتهم الأخلاقية والعقائدية للموضوع بحد ذاته. لا يمكن أن تكون حقوقي وناشط إنساني وأنت تساند الحقوق وتُؤَمِّن المواقف التي تتفق فقط وعقيدتك أو منظومتك الأخلاقية. لذلك، يعتبر العمل الإنساني أصعب أنواع الأنشطة البشرية، ذلك أنه يتطلب ليس فقط حرب شعواء ضد منظومات قاهرة للإنسان، لكنه يتطلب كذلك حرب شعواء بين الإنسان ونفسه، بينه وبين قيمه ومبادئه، حيث أن الناشط في المجال دوماً ما يضطر، أحياناً قسراً وإيلاماً لنفسه، أن يضع إيمانياته ومعتقداته ومنظومته جانباً، ليقف مع الإنسان لكونه إنسان، ولا شيئ غير ذلك.

وفي جانب آخر يسترعي الانتباه ويستدعي الدراسة، نرى أن هناك ظاهرة منتشرة عندنا للدفاع عن العقيدة والمنظومة الأخلاقية بأشرس وأبغض الأساليب والطرق غير الأخلاقية، حتى ليبدو التناقض الفج واضحاً بين الدين الذي يدافع عنه صاحبه أو الأخلاق التي يدفع عنها، وبين ألفاظه وتعابيره وكلماته التي تظهر تدنياً واضحاً في التطبيق والممارسة. لربما يشير هذا التناقض العميق بين الأسلوب والهدف إلى اهتزاز قناعات الفرد بحد ذاته، حتى لأنه يدفع عن نفسه تردده وينكر عليها معركتها الداخلية بإيذاء وشتم الآخر الذي تسبب له بمواجهة مع نفسه. ومن ناحية أخرى لربما تشير الطريقة اللاأخلاقية في الدفاع عن الأخلاق إلى شعور الفرد بأن الغاية تبرر الوسيله، وأن دفاعه عن حقه المطلق وحمايته له يبرران، وأحياناً يشجعان، استخدام أبشع الوسائل وأرخص الأساليب. فإذا كانت القسوة اللفظية والعنف الجسدي غير مقبولين في الدفاع عن الحقيقة المطلقة النهائية، فمتى سيكونان مقبولين؟ هناك كذلك نظرية ثالثة كنت قد قرأت حولها بعض المقالات والتي تقول أن الإنسان المؤمن يعتقد بقوة دائماً بمغفرة الرب وبأن تمسكه بالدين السليم (أياً كان هذا الدين من وجهة نظره) وبقائه على العقيدة الصحيحة ووجوده في رحاب الحق كلهم سيؤمنونه ضد الأخطاء وتبعاتها. يستطيع المؤمن أن يعتمد دوماً على مغفرة الإله لأن، من وجهة نظره، الإله إلهه والحقيقة حقيقته، ولا يمكن بحال أن يناله سوء طالما هو في جانب الخالق والحقيقة. تشير بعض هذه المقالات إلى أن نتاج ذلك هو خلق شعور بالتعالي الأخلاقي والفوقية السلوكية تجاه الآخرين، حيث يراود الإنسان المؤمن شعور بأنه أفضل من الآخرين أخلاقياً، أسمى عقائدياً، وأكثر أمناً مصيرياً في الدنيا والآخرة، مما يؤمنه تماماً ضد حتى آثامه وأخطائه، وذلك مهما انحدر التطبيق في المجالين: الأخلاق والسلوك.

في عموم حياتنا، نحن شعوب تحب الستر، لا نرى في الفعل بحد ذاته إهانة وإنما تتجلى الإهانة ويقع الإثم في العلنية. لذلك، ليس المؤرق في عالمنا وقوع الحدث إنما انكشافه. في العالم الغربي العكس هو الصحيح في معظم الأوقات، حيث يٌنظر للإخفاء على أنه خطيئة وللعلنية على أنها اعتراف في أسوأ الأحوال، وشجاعة في أفضلها.

وفي عموم حياتنا نحن شعوب نحب القالب الأوحد، فالتعددية متعبة بلا شك وتباين الآراء واختلاف المفاهيم يخلقان عبئاً نفسياً على المجتمع الذي عليه أن يمرن أعصابه وأخلاقياته على قبول وجود الآخر حتى مع رفض أفكاره أو حتى عدم احترامها. شعوبنا العربية المعتادة القائد الواحد والحق الواحد والبطل الواحد فعلياً غير قادرة على فهم المعنى العميق للتعددية أو على تقدير حملها الثقيل. فالتعددية، على قدر ما تفسح الحياة وتصنع الأمن، على قدر ما تثقل على كل إنسان منا راسخ تماماً في إيمانياته وأفكاره ومبادئه. هذا النسق الأوحد من الممارسة ملحوظ في شتى مناحي حياتنا، بدءاً من ممارساتنا السياسية، والتي نعشق فيها فكرة البطل الأوحد حد العبادة، مروراً على توجهاتنا الدينية التي تقف عند “أنا على صواب” دون أدنى “احتمالية خطأ” وصولاً إلى اختياراتنا الحياتية التي يجب ولابد أن نشكلها في قالب واحد فقط لا يتغير.

وما بين الستر والوحدوية، يتساقط بيننا الكثير من الضحايا العلنيين، المختلفين، غير المتيقنين، الذين لا يزالون يبحثون عن وجودهم وهوياتهم ومعتقداتهم ومعنى لحياتهم. نحن بيئة قاسية قسوة الصحراء، ضيقة على عكس اتساعها، ساخنة المشاعر بسخونة أجوائها، مكتومة على عكس رحابتها. نحن الشي وعكسه، كتلة من المتناقضات تحيا على هذه الأرض، لذا، تجدنا نريد حريتنا في نقد بل وإنكار أديان غيرنا، لكننا لا نحتمل نقد أو إنكار ديننا، نريد تسفيه المنظومة الأخلاقية لغيرنا، لكن منظومتنا الأخلاقية بالنسبة لنا مقدسة نموت دونها، نريد أن ننتقد دول وسياسات غيرنا، أما دولنا وسياساتنا فهي شأن داخلي لا دخل للآخرين به. نحن، في هذا العالم العربي الكبير، حالة حزينة بحق، حوض سمك قديم بماء آسن، لا يستطيع أن يحيا فيه سوى الهادئ السابح ببطئ ملتصقاً بالجدران الزجاجية المضببة، فقط القادر على استنشاق أوكسجين الماء القديم. حتى في دعاؤنا نتمنى الستر والثبات، أن تٌستر حياتنا وألا يتغير شيئ مطلقاً، وحقاً، لا شيئ يتغير مطلقاً.

اترك تعليقاً