الحوار في مجتمعات يغلب عليها التدين يكون حواراً صعباً جداً، وذلك لغياب قاعدة يقف عليها الجميع على قدم المساواة انطلاقاً في سباق الحوار. أتصور أن قاعدة مثل هذه لا يمكن أن تبنى سوى على دعائم مفهومة واضحة: كلنا سنبدأ من نقطة «أنا على صواب يحتمل الخطأ» كلنا سنتحاور دون ادعاء أي حقائق مطلقة، كلنا سنلتزم خطوط الملعب ومساواة الفرص، ذلك أنه بمجرد إظهار كرت «الحق عندي» سينتهي الحوار إلى طريق مسدود. وعلى الرغم من قسوة هذه الدعائم الحوارية على أصحاب الإيمانيات المطلقة، إلا أنها مستوجبة تماماً لسلامة الحوار وسلاسته، ذلك أنه ما أن يقتبس أحدهم الخالق أو أحد أنبيائه طبقاً لمفهومه الإيماني المطلق، حتى ينقلب الحوار إلى شد وجذب غريبين: أنت تقول هذا الحديث المنقول عن الخالق ونبيه هو رأيك، فهمك لما ورد في النص وهو نص خاص بدين أوحد، والآخر يقول بل هو الحق المطلق، فتعود لتقول ولكن حتى في الدين الأوحد ذي الحق المطلق المنفرد تتعدد التفسيرات، فيرد الآخر بل هناك عقائد راسخة ثابتة، فتثابر لتوصل فكرة أن هذا الثبات قد يكون عند فئة دينية واحدة، بل عند فئة من هذه الفئة، فيأتيك الرد الذي ينتهي بالجميع إلى حائط سد: لكن ديننا هو الحق وهو الفطرة وهو العقيدة الصحيحة. يخطر لك أن ترد: هذا رأيك، عند غيرك عقيدته هي الصحيحة. ثم تتراجع، إن قلتها سيعتبر ذلك تشكيكاً، ستدخل في متاهات لن تخرج منها إلا وأنت مارق زنديق. حوارات غريبة الأطوار بغرابة سفرنا كشعوب كاملة عبر الزمن، من القرن العاشر إلى القرن الواحد والعشرين، لا نحن نحيا ما نعظ ولا نحن نعظ طبقاً للحياة الحالية. وضع غريب فصامي مريض المفاصل.
كلما دخلت في حوار مثل هذا أختبر حالة انفصالية غريبة، حيث سرعان ما أخرج خارج عقلي وأقف من بعيد، مراقبتي أنا ومتحاورتي، كأن المتحدثة غيري، وكأنني أراقب الجميع من بعيد بحياد يصل حد عدم الاهتمام. فعلى كل، تتكرر هذه الحوارات مراراً وتكراراً حتى أصبحت كأنها «ديجا فو» تتوالى علينا كالقادمة من حيوات أخرى، تلف وتدور بذات التفاصيل في توال مرهق مرعب. أعلم بالتأكيد أن هناك فكرة الحق المطلق، لكن لا يوجد أشخاص مطلقون يمثلونه، لكل حق مطلق صاحبه، هو فقط يمثله، ولكل «صاحبٍ» حقه المطلق، يسكن عقل هذا الصاحب ولا يستطيع أن يحيا ويتجلى سوى في فكره وعقله ومن خلال فلسفته. ومع كل هذه الحقائق المطلقة وأصحابها، إما يعتني بعضنا ببعض وبحقائقنا المطلقة الكثيرة التي لا تنتهي، أو نطلق الأقواس بسهامها تجاه بعضنا بعضاً، إلى أن يفنى الجميع ويبقى حق واحد وحده في هذه الدنيا. هل يا ترى فكر صاحب «الحق المنتصر» ما الذي سيستفيده وما الذي سيجنيه لدينه وعقيدته وحقه المطلق حين يفنى الجميع ويبقى هو وحقه جالسين «على تلها»؟
وعلى أن الحوارات المنطقية قد تصعب تحديداً في المجتمعات المتدينة، إلا أنها ليست سلسة تماماً في غيرها. في فضاء «تويتر» المفتوح، نقرأ كل يوم الحوارات المسكينة ذاتها: «ماكرون اللعين لن نتركه -كما قال أحد المغردين- حتى يغني- طلع البدر علينا» في إشارة إلى انتصار الحملة الإسلامية بجعل ماكرون يتراجع عن كلامه ويخفف لهجته، ليقابله حوار آخر «المسلمون المتطرفون… سنعلق لهم الكاريكاتيرات في الشوارع وعلى المباني الرسمية في الدولة» في إشارة لما يشبه عقاباً جماعياً للبريء قبل المذنب من مسلمي فرنسا. أي انتصار للمسلمين إذا كان هناك فعلاً تراجع في كلام ماكرون دافعه الخوف من العنف أو مراعاة للاقتصاد؟ هل تغــيرت الفكرة وتحقق انتصار أيديولوجي مبدئي؟ أي انتصار لماكــــرون ومؤيديه إذا ما آذوا فئة كبيرة من شعبهم وعزلوها وأشعروها بالغربة في بلدهم؟ هل بدلوا بذلك الفكر المتعصب أو ضمنوا أي درجة من السلام؟
لا المسلمون قادرون على فهم درجة حرية الرأي التي يجب أن يتعاملوا معها في عالم اليوم، والتي تشمل النقد العميق لعقيدتهم وبأساليب قد تكون موجعة، كما يحدث تماماً مع عقائد غيرهم، ولا الفرنسيون قادرون على تمييز درجة الأذى التي تتجلى في حيوات المسلمين الفرنسيين غير المتعصبين، ربما حتى غير المعترضين لا على الكاريكاتيرات ولا على أي نوع من النقد بحكم عيشهم في المجتمع الفرنسي وتطبعهم بدرجة حرياته، هؤلاء الذين يحيون حياة عادية، ويحبون بلدهم فرنسا ويحترمون عقيدتهم الإسلامية دون غلو ودون حتى صراع مع الآخر الناقد لهذه العقيدة. ترى، كيف سيشعر هؤلاء وهم ذاهبون صباحاً إلى مقار عملهم ليشاهدوا صورة نبيهم ورمزهم الأعلى مرفوعة بسخرية وإسفاف على مبان رسمية تمثل بلدهم؟ أي ذنب ارتكبه هؤلاء حتى ينالهم من الإهانة والألم جانب؟
أحياناً يبدو أن العالم كله نحا إلى الجنون وبذات النمط الغريب المتكرر. فكما هو الكون من أكبره إلى أكثره نمنمة وصغراً (أي الذرة) يدور في دوائر، كذلك الجنون في هذه الدنيا من أكبر صوره بين الدول والقادة والشعوب إلى أصغرها في جروبات الواتس آب، تدور في دوائر، يهاجم من خلالها الناس بعضهم بعضاً، يتراكضون في دوائر مغلقة، كلٌّ يحاول أن يمسك بذيل صاحبه، فينتهون لحلقة دائرية مجنونة لن تتركهم إلا حطاماً. يروق لي أحياناً أن أخرج خارج هذه الدائرة وأتأمل كم نحن، الهوموسيبيان، مضحكون مساكين..