كعادتنا، دائماً ندخل، عرباً ومسلمين، معارك خاسرة، نحارب بأسلحة منتهية صلاحيتها، نحب منها ما يقعقع بصوت عالٍ، فنشد السيوف لأنها تبرق وتصلصل، ونأنف عن المسدس الحديث لأنه كاتم للصوت، فنحن “ظاهرة صوتية” كما يقول عبدالله القصيمي، يبهرنا الصراخ وتجذبنا الكلمات الخاوية الرنانة، ليس المهم معناها أو فحواها أو حتى الناتج عنها، المهم أنها مرتفعة طنانة، تشفي هذه المشاعر المتأججة في دواخلنا دون استجابة لمنطق أو حكمة.
شاهدت أول ثلاث دقائق من الفيلم الأميركي المسيء، لم أستطع إكماله فعلاً، فأخلاقياً وفنياً ونقدياً هو في أعلى درجات الانحطاط، تلك كانت طريقتي في التصدي له، إهماله وتحقيري له بإغلاق رابطه قبل أن يكتمل ربعه، إلا أن هذا لا يعني عدم تفهمي للتحركات الأخرى الاعتصامية، هذا حراك شارع طبيعي وهو من حق الناس، فهو تنفيس لهم وتعبير طبيعي عن دواخل النفوس المهتاجة غضبة لدينها ورسولها. ما هو غير طبيعي هو نشرنا المتعاظم لفيلم نعتقد بوضاعته ونود إيقافه، من أين نعترض عليه ومن أين ننشره مثل النار في هشيم الوسائل الإلكترونية؟ ما هو غير طبيعي أننا اعتراضاً على الإساءة الدينية وإثباتاً أن المسلمين ورسولهم على غير ما يدعي الفيلم من فقر أخلاقي وعنف، يقوم البعض منا بأعمال قتل وتخريب، فتثبت التهمة على المسلمين بوسائل مقاومتها بحد ذاتها.
للأسف، عالم اليوم بأسلحته الفكرية المتنورة بالكاد يبتلع أسلوب الاعتصامات والصراخ القديمين اللذين ما زلت أراهما ردة فعل شعبية طبيعية، وإن كانت غير متواكبة مع وسائل المقاومة الفكرية الحديثة، فكيف بأسلوب العنف والقتل ورد الإساءة ببذاءة؟ أتفهم أن يخرج الشعب بردة فعله الطبيعية غاضباً للشارع، لكنني لا أتفهم كيف يقوده نواب يفترض بهم أقل درجات الدبلوماسية والتفهم لطبيعة الحرب الفكرية المعاصرة في العالم.
لو كنت محل أحد هؤلاء النواب، لشكلت وفداً يصحبه الإعلام، وحددت مكاناً محايداً لمقابلة وفد من السفارة الأميركية بدعوة لوفود من سفارات أخرى، وفي اللقاء، وبعد التصريح بأن هذا الفيلم لن يأخذ أكثر من دقيقة من التعليق، أهدي كل وفد من الوفود نسخة من فيلم الرسالة للعقاد، وبعض الكتب التوثيقية مترجمة إلى الإنكليزية حول الرسالة المحمدية وتاريخ الإسلام مع التعهد بإرسال كميات من هذه الكتب للأسواق العامة الأوروبية والأميركية، وطلب ودي ببث الفيلم مرتين أو ثلاث على التلفزيونات الغربية خلال الشهر القادم، ثم التأكيد أن المسلمين، وإن أصابتهم إساءة، يبقون يحملون الاحترام لكل الأديان الأخرى، وأن من يتقول من المسلمين بقتل اليهود والنصارى، وتشبيههم بالقردة والخنازير ليس من الإسلام في شيء، إساءته مردودة عليه كما إساءة أصحاب الفيلم مردودة عليهم.
تلك ستكون طلقة من مسدس كاتم للصوت على الفيلم وأصحابه، وكنت لأطلب أكثر من ذلك، كنت لأطلب تجاهل الفيلم تماماً وعدم إثارة الموضوع مطلقاً، فتلك أفضل الوسائل لوأده، لكنني أدرك أن الشارعين العربي والإسلامي لن يستطيعا كتم الغضبة، لذا، فلابد من صياغة أسلوب رسمي للتغطية وتحسين صورة الحراك الشعبي. هكذا يحقق الإنسان الحديث في عالم التكنولوجيا المعاصر انتصاره الفكري والعقائدي. أن تشهر سيفاً في وجه مسدس تصبح أضحوكة، ولكن أن تطلق حمامة في وجه المسدس، تصبح قديساً صاحب رسالة وعقيدة بيضاء منطلقة مثل الحمامة التي تطلقها.
لكن، أي حمامة تلك التي سيطلقها برلمانيون يخرجون على رأس تظاهرة تردد “يا أوباما كلنا أسامة”، أي سلام يرجونه من يعتقدون “الشيخ” أسامة بطلاً شهيداً؟ ومن ذا الذي سيرغب منهم في حمامة بلا ضجيج تهدر به حملته الانتخابية حين يكون بإمكانه إطلاق غراب نعيقه سيصم آذان الناخبين؟ نعم، هذا الفيلم المسيئ كارثة عظيمة، ليس لأنه يمس النبوة، فهذا مقام يتجلى في القلوب والضمائر لا يصله مساس أو تجريح، لكن لأنه يعري هذه النزعة الإرهابية التي لا تلبث أن تدفع بنفسها على لسان وفي تصرفات بعض مشرعي الأمة، ولم نصل بعد إلى الكارثة، فتلك تتجلى في أن هؤلاء، بفكرهم الإرهابي العاري، سيعاد انتخابهم في الدورة الانتخابية القادمة. كيف نقرأ نجاحهم المحتوم هذا؟
«آخر شي»:
“مشاهد لم يصورها الفيلم” للدكتور سعد بن طفلة في الاتحاد الظبيانية، مقال رائع ومؤلم حول الفيلم وتداعيات ردود الأفعال.