يدور اليوم حواراً “شماتاً” نوعاً ما تجاه الخطاب الغربي الحقوقي الإنساني، خصوصاً وقد تبينت مفارقات المواقف ونفاق التقييمات الغربية تجاه القضايا المطروحة عالمياً، ليقدم الغرب منظومته الفكرية كاملة على ضريح المراجعة الشاملة، وليتشكك حتى أكثر المتأثرين بهذه المنظومة بصلابة أسسها وحقيقة مراميها.
في رأيي لا أرى مفارقة كبيرة في المواقف الحقوقية الغربية، فلطالما كانت متباينة ليس بين حق شخصي وحق شخصي، وإنما بين حق “وخُلُق” شخصيين وحق “وخُلُق” سياسيين، لتتكون فيما بين هذين فجوة حضارية خطيرة تتداعى عند حوافها كل الإنجازات الإنسانية الحقوقية.
ليس لدي الغرب في المواقف الحكومية الرسمية إشكالية كبيرة مع الحقوق والحريات الشخصية، إلا فيما ندر. لذلك تبدو بلدانهم دائماً جنات آمنة للمختلفين، خصوصاً من مواطنيهم، يستطيعون على أرضها أن يقولوا ما يريدون بل وأن يكونوا ما يريدون دون التقيد بشكل أو هوية اجتماعيين يفرضان شكل جسدي أو نمط حياة أو اختيار اجتماعي. تتهاوى منظومة الحقوق والحريات الشخصية هذه قليلاً في بعض البلدان مثل فرنسا والتي تحمل على عاتقها تاريخ طويل من المعاناة مع الدين السياسي مما خلق لديها حالة من العداء تجاه الدين، أي دين، يجعل من مواقفها تجاه الحقوق والحريات مواقف مهزوزة وعلى غير تواؤم والمنظومة التي تتفاخر بها الحضارة الغربية ككل. أما في المجمل الأعم، فالحريات والحقوق الشخصية مدعومة قانونياً وحكومياً وإلى حد جيد شعبياً كذلك، على الأقل مقارنة بفاعلية هذه الحقوق والحريات في مجتمعاتنا المحافظة.
أما منظومة الحقوق السياسية، فتلك هي التي كشفت المستور وسربت رائحة العفن. بلا شك تتداخل منظومة الحقوق الشخصية بالسياسية، إلا أن السياسية البحتة منها هي تحديداً التي سلطت الضوء على التناقض والنفاق الغربيين، لتهبط بهذه الحضارات وشعوبها إلى مستوى البشر بعد أن طالما سوقوا لأنفسهم على أنهم في منزلة أعلى من كائن “الهومو سيبيان” البدائي. كشف تباين التقييمات السياسية العورة التي طالما بانت طوالعها إبان مواقف سابقة، والتي انكشفت عن آخرها في الموقف الدموي الجرائمي الحالي.
حين ضُربت أوكرانيا بكى الغرب ندباً وعويلاً، ليشاركهم في ذلك كل ذي ضمير وشعور، إلا أن كل شعب عانى من هجوم مسلح أو تجربة استعمار أو اسقواء حكومة طامعة معادية صرخ وقتها: أي نفاق في المواقف تظهره أزمة أوكرانيا؟ وماذا عن سوريا والعراق وليبيا والبوسنة وفيتنام وأفغانستان وفلسطين وغيرها من الدول والمجتمعات التي وقعت تحت قبضة شعار أمريكا Manifest Destiny أو القدر المتجلي الذي تحت رايته احتلت أمريكا وضربت وهاجمت وحاربت وقتلت، بحكم أن قدرها هو “نشر الديموقراطية” في العالم أجمع، هذا القدر الذي ختم على صحته الغرب الأوروبي؟ كيف تغضب أمريكا للعنف الروسي ضد أوكرانيا وتبرر للعنف الأمريكي ضد العراق وأفغانستان على سبيل المثال لا التحديد؟
ثم يشاء القدر، مؤيداً بوسائل التواصل التي لم تكشف المستور وتفضح عورة النفاق فقط، وإنما عرت حكومات الغرب الأمريكي الأوروبي عن بكرة أبيهم، أن تكون غزة، ويا ويح قلوبنا على غزة، هي الكاشف الأكبر والدرس الأعظم ومحول المسار الأشد والأقسى على البشرية أجمع. كشفت غزة رخص المواقف الغربية السياسية الحكومية، نفاقها، مصلحيتها التي، دفاعاً عنها، لا تأنف هذه الحكومات من أن تدفن آلاف الأطفال الأبرياء تحت التراب في غضون أيام. إلا أن الحقيقة الساطعة باقية: هذه القرابين الطاهرة لا تقدم على مذابح مصالح حكومات جرائم الحرب هذه، إنما تقدم على مذابح الحق والحرية والعدالة والكرامة، على مذبح غزة، رمز المعاناة والقهر، والمقاومة والعزة كلهم في آن.
ليس ذلك فقط، بل إن تداع منظومة الحقوق السياسية الغربية وصل لمواطني هذه الدول بحد ذاتهم، ليذوقوا مرار التهديد والاعتقال والحبس إذا ما رفعوا أصواتهم بآراء سياسية مخالفة للسائد الحكومي. لقد كشفت حكومات هذه الدول عن هشاشة منظوماتها الحرياتية الحقوقية الكاملة، لنتأكد أنها منظومة نص كم، تقبل بالحريات الشخصية، في حياتك إفعل ما تشاء، ولا تقبل بالحرية السياسية، إلى عند مصالحنا إخرس تماماً، حتى ولو كنت مواطناً غربياً “من الدرجة الأولى.”
المواقف الحكومية الغربية شكلت أزمة أخلاقية وجودية بلا شك لكل من نظر بإعجاب للمنظومة الفكرية الحرياتية الغربية في يوم، إلا أننا يجب أن نتذكر أولاً أن المنظومة الفكرية الغربية هي ليست فعلياً غربية، إنما هي منظومة إنسانية تشكلت من تراكم خبرات وفلسفات وتأريخات للبشر على مدى قرون طويلة، وثانياً أن المنظومة الحرياتية الشخصية الغربية المعاصرة لا تزال تستحق الإعجاب، وأحياناً النقد بالطبع، لما وصلت إليه من درجات متقدمة، وأننا، في الواقع، نحتاج لأن نفرق بين مواقف الحريات السياسية الحكومية المهزوزة تماماً ومواقف الحريات الشخصية الحقوقية الأقوى والأكثر صلابة والتي غالباً ما تتجلى في مواقف الحكومات والقوانين تجاه الأشخاص وحرياتهم في داخل المجتمعات الغربية. حياة المواطن الغربي، من حيث الحريات والحقوق، لا تزال تشكل نموذجاً يستحق الدراسة والتقييم، وهو نموذج لا يجب أن نكفر به أو ننكره لانكشاف كذبة الحريات السياسية. نعم التمييز في الموقف الفكري صعب خصوصاً إبان الأزمة الحارقة التي نمر بها، إلا أن التمييز والفهم العميق للموقف مهمين، ذلك أنهما سيسانداننا فيم نحن نكشف خدعة الديموقراطية والحرية السياسية الغربية.
طيبين على أنفسكم ومواطنيكم في الداخل، ولربما نموذج يحتفى به مجتمعياً، لكنكم شرسين حد الوقاحة ومنافقين ومتوحشين على غيركم في الخارج، حيث يبدو أن المبادئ تقف عند حدود بلدانكم الخضراء الباهية. تبدو بلدانكم الآن قبيحة بكل نفاقها السياسي، فكيف ستعود الحضارة الأوروبية من هذا المطب الأخلاقي الوجودي الشرس؟